من هموم المسلمين في الغرب في مدونة الأحوال الشخصية (المناصفة بين الزوجين – المقال الأول)
برزت دعوات من هنا وهناك تطالب بتفعيل القوانين الغربية في باب الأحوال الشخصية، والتركيز على الجانب المدني أكثر من غيره، ورأينا من يطالب بتقنين مسألة الشركة في مالك الزوجية وحق المناصفة في هذا المال في حالات الطلاق.
لقد حاول البعض التوفيق بين هذه الدعوات وبين الشريعة وذلك بإيجاد مسوغ شرعيًا لهذه الدعوى، وذلك من خلال أدوات الاستدلال أصولًا وفروعًا، فمن جهة الأصول نجد أنهم استعملوا القياس والمصالح المرسلة، والكلام على مقاصد الشريعة العامة كمقصد العدل، وحفظ النفس، ومن جهة الفروع نجد أنهم عمدوا إلى تأويل بعض نصوص السماع من القرآن والسنة لتؤيد هذه الدعوى.
ولأهمية هذا الموضوع وتأثيره على كثير من الأسر، لاسيما مع ظاهرة انتشار الطلاق، سواء كان في صورة الطلاق الطوعي أو الخلع، سأسطر مجموعة من المقالات تناقش القضية من عدة جوانب:
– في جانب التوصيف.
– في جانب الاستدلال بمفهوم الكد والسعاية.
– في جانب الحكم الشرعي.
– في جانب الحلول المقترحة.
المقال الأول
توصيف المشكلة والخلفية القانونية المدنية
قبل أن أذكر ما عليه القوانين الغربية بخصوص قضية الحقوق الزوجية والمال المشترك (مال الزوجة) بالمفهوم الغربي. والأسباب المؤججة لطرح هذه القضية ،
أود أن أشارك السيدات والسادة القراء قصتين إحداهما حدثت في أحد الولايات وكنت شاهدًا عليها، والثانية عرفناها من وسائل الإعلام حديثًا.تلخصان موضوع القضية والعوامل المحيطة والتي تتشابه في كثير من الحالات.
الأولى: أنه كان هناك رجل أعمال لديه عدة منافذ للتجارة تتنوع ما بين بقالات ومطاعم وغيرها، عاش الرجل في الولايات المتحدة مع زوجته وأولاده يعمل حتى أسس هذه الثروة، ثم جاء قضاء الله وتوفيت الزوجة وتركت له أولادًا كبارًا نسبيًا يسكنون مع والدهم في بيته الفخم ويستمتعون بأسباب الحياة المتنوعة، وبعد فترة قرر الرجل أن يتزوج، فرجع إلى بلده الأصلي، واختار سيدة من وسط فقير نسبيًا، واستقدم السيدة، وأجر لها مسكنًا جيدًا، واشترى لها سيارة جديدة ولكنها بنظام الأقساط (يفعل الناس مثل هذه لأغراض متنوعة منها إعطاء فرصة لمعرفة الطرف الثاني جيدًا، ومنها أمور تخص الضرائب وغيرها).
السيدة أنجبت طفلين في فترة سنتين، وبدأت تتعرف على بعض النساء في الجالية، وبعد أن عرفن من هي، وزوجة من تكون أخذن في تحريضها على زوجها، واتهموه بسوء معاملتها ماديًا وأنه لديه قصر يسكن فيه مع أولاده من زوجته المتوفاة، وأن لديه تجارات عظيمة، وأخذوا السيدة وأروها كل هذه الممتلكات والسيارات والتجارات، وأخبروها أن تطالبه بكتابة بعض هذه الأشياء لأولادها الصغار وأن تهدده بأنها ستأخذه المحكمة، وتأخذ نصف ما عنده إذا لم يفعل . استمعت السيدة لهذه التحريضات وواجهت زوجها وطالبته أن تنتقل مع أولادها إلى القصر بدل السكن المؤجر، وأن يكتب لأولادها نصيبًا وهددته بالمناصفة في المحكمة.
رفض الزوج هذه المطالبات وذكرها بالاتفاق السابق بينهما وأنه أعلمها بأنه لن يساكنها مع أولاده من الزوجة المتوفاة وأنه يكفل لها حياة كريمة ومستوى جيدًا لها ولصغارها، ولكن السيدة رفضت وذهبت إلى أحد المحاميات ورفعت قضية طلاق وطالبت بالمناصفة وبنفقتها ونفقة أولادها بعد أن وعدت من المحامية أنها ستحصل لها على ملايين ودخلاً شهريًا عاليًا.
قطع الرجل ما كان يدفعه للسيدة من إيجار للمنزل وقطع المصاريف الشهرية مؤقتًا، وبدأت مرحلة المحكمة، وكانت المفاجأة لدى الجميع أن الدخل الرسمي لهذا الرجل هو مبلغ بسيط جدًا، وأن كل هذه التجارات وغيرها ليست له (ليست باسمه) بل ثبت أنه ممن يعيشون قريبًا من خط الفقر بالعرف المحلي، ولم تستطع السيدة الحصول على شيء، بل انتهى بها الأمر أن تتسول الناس المساعدة أمام المسجد، وحين توسط البعض لدى الزوج برعاية أولاده القصر، خيرها بين الاستمرار في القضية وبين الرجوع بالأولاد للبلد الأصلي مع تكلفة مصاريفهم هناك كاملة.
والقضية الثانية: قضية لاعب الكرة، الشهيرة في الفترة الأخيرة، والتي تبين أيضًا أن طليقته لن تحصل على جزء من ثروته وهو من أعلى اللاعبين أجرًا في فرنسا، ويقال إنه يحصل على مليون يورو شهريًا غير الأمور الأخرى، لأنه نقل ملكية كل شيء لوالدته، وأن راتبه يذهب مباشرة إلى الحساب المصرفي لوالدته.
إذن فما هي الخلفية القانونية لقصة مال الزوجية ؟
سأحاول أن أفصل القول في هذه الخلفية في عناصر كالأتي:
أولا : معني مال الزوجية في الأعراف الغربية :
يطلق هذا المفهوم في كثير من المجتمعات الغربية ويقصد الأصول المالية والموارد التي تكون مملوكة بصورة مشتركة بين الزوجين أو تم الحصول عليها خلال فترة الزواج. و يشمل ذلك الدخل والمدخرات والاستثمارات والعقارات والأصول المالية الأخرى التي يعتبرها القانون المحلي مشتركة أو ملكية مشتركة في حال قيام الزوجية ،ويدخل في ذلك الديون المستحقة والواجبة أيضا .
وبعض المجتمعات تسمح بوجود ذمة مالية خاصة للزوج أو الزوجة بالإضافة لمال الزوجية ، وذلك كالمال المكتسب عن طريق الميراث أو الهدايا ، وبعضها يقول بالشيوع .
وإذا أخذنا الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها أكبر الدول الغربية حجما وسكانا ،مع تحكيمها لقوانين علمانية نجد أنها تقسم مال الزوجية إلى أنواع :
الأصول الزوجية ،والأصول غير الزوجية، والأصول المختلطة :
فالأصول الزوجية أو الملكية المشتركة تعرف بأنها الأصول (وتشمل الديون ) التي يتم اكتسابها خلال فترة الزواج، إما بشكل مشترك أو من قبل أحد الطرفين، عدا الهدايا أو الميراث التي يتلقاها أحد الأزواج.
أما الأصول غير الزوجية أو الممتلكات الخاصة، فهي الأصول والديون التي يملكها كل طرف قبل الزواج والتي لا تتغير. كما يمكن أن تشمل الأصول التي تلقاها أحد الأزواج أثناء الزواج، بما في ذلك الهدايا التي يقدمها أحد الأزواج للآخر.
وأما الأصول المختلطة، فهي الأصول والديون التي كانت غير زوجية، ولكن تم استبدالها لاكتساب أصول جديدة، أو إصلاحها أو تعزيزها خلال فترة الزواج باستخدام الأموال الزوجية، أو دفع الديون غير الزوجية باستخدام الأموال الزوجية. على سبيل المثال، السيارات قد تدخل في هذه الفئة في بعض الأحيان بسبب الصيانة التي تقع لها أثناء الزواج وبمال الزوجية ومثلها أن تكون السيارة على أقساط ،تم تسديد بعضها أو معظمها أثناء قيام الزوجية .
ثانيا : قسمة مال الزوجية في حالة الطلاق :
تتفق معظم القوانين العلمانية الغربية وبعض البلاد الأخرى على مبدأ قسمة مال الزوجية بين الزوجين في حالة الطلاق ، ولكنها تختلف في بعض التفاصيل بحسب اختلاف الولاية القضائية المنظمة . فتتبع بعض الولايات القضائية قوانين الملكية المشتركة، والتي هي عمومًا تشمل توزيعًا متساوٍ للأصول المكتسبة خلال الزواج.
علي حين تستخدم بعض الولايات القضائية ما يسمى مبدأ التوزيع العادل، حيث تؤخذ في الاعتبار مختلف العوامل مثل مدة الزواج والمساهمات المالية والقدرات المستقبلية للأزواج لتحديد توزيع عادل للأصول.
وإذا أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا مرة أخرى لطريقة القسمة سنجد الطريقتين السابقتين في القسمة وتسميان [ community property vs. equitable distribution] ، التوزيع علي الشيوع مقابل التوزيع النصابي
فإذا كنت تعيش في ولايات أريزونا وكاليفورنيا وأيداهو ولويزيانا ونيفادا ونيومكسيكو وتكساس وواشنطن وويسكونسن مثلا ، فالطرفان يشاركان بالتساوي جميع الدخل والممتلكات والديون المتراكمة خلال فترة الزواج.
وإذا كنت تعيش في أي ولاية أخرى، تنظر المحاكم في مجموعة من العوامل لتحديد توزيع معقول لجميع الممتلكات الزوجية.
وفي كل الأحوال لا تفرق هذه القوانين بين الزوجين من حيث الجنس ،فقد يقاسم الرجل أملاكًا لزوجته حين الطلاق ليست له فيه يد ، وقد تقاسم الزوجة زوجها فيما له بالأصالة وإن لم يكن لها يد فيه . الأسباب المؤسسة :
الذي أثار هذه القضية مؤخرا عدة عوامل منها :
ـ انتشار ظاهرة الطلاق ، سواء كان بالطلاق أو بالخلع ، وترتب على ذلك امتلاء المحاكم بالدعاوى القضائية ، وفي حالات كثيرة لا يسعف القانون في إيجاد حل لمسألة الحقوق المدنية والاجتماعية المترتبة على الطلاق.
ـ طول مدة الزواج طولا يصعب معه استبيان الحقوق الخاصة من العامة ، وتداخل الذمم المالية للزوجين ، فمثلا في حالة الجاليات الإسلامية في الغرب هناك ما يسمى ( joint account ) ، أو الحساب المشترك ، حيث يعمل الزوجان ويحولان دخلهما على هذا الحساب المشترك ، ثم يقوما بالاستهلاك المشترك منه .
ـ ضعف نظام الكفالة الشرعية بسبب تغير أنماط الحياة ، ففي القديم كانت المرأة مكفولة شرعا وعرف بعصبها الذكري أبا كان أو زوجا أو أخا أو ابنا ، أما الان فقد رأينا نساء متروكات للحاجة ، مع وجود العصب.
ـ التحولات الاقتصادية الجزافية والسريعة في المجتمع المعاصر ، فمثلا نسب التضخم الكبيرة التي تطرأ وتجعل من مال المتعة الشهرية مثلا غير ذي قيمة ، أو تغير سعر العملة بصورة كبيرة حتى لم يبق للمهر المسمى أي قيمية سوقية حقيقية ، فمثلا من كتب لها عشرون ألف ليرة سورية مهرا ، قبل خمسة عشر عاما ، كان المبلغ ذا قيمة ، أما الآن فلا يساوي بضعة دولارات ، ومن كتب لها عشرون ألف جنيه مصريا مثلا ، لا تساوي الآن خمسمائة دولار ، ولا تكفي لمعيشة أكثر من شهرين أو ثلاثة .
ـ ومن الأسباب الخاصة ببلاد الغرب ، قيم الحرية المفرطة بمقابل بعض قيود الشرع ، والتي تدفع بعض النساء أو كثيرا منهن إلى اختيار الحل السهل ، وهو التحلل من قيود الزواج مع ضمان دخل ثابت في مال الزوج ، الامر الذي نستطيع أن نصفه بكثير من الاطمئنان ، أنه عامل محرض ، فكثيرا من القوانين الغربية الموغلة في الليبرالية هي قوانين تحريضية على مفاهيم مستقرة كمفهوم الأسرة ، ففي الولايات المتحدة مثلا على حسب مجلة فوربس في إحصائية نشرها الصحفي كريستي بييبر في الرابع من مايو ٢٠٢٣ ، يذكر أن أنه في عام 2021، بلغ إجمالي عدد الطلاقات 689,308 طلاقًا في الولايات الـ 45 التي تقدم هذه الإحصائيات. وخلال نفس العام، تم 1,985,072 زواجًا، مما يجعل معدل الزواج في الولايات المتحدة 6 زيجات لكل 1,000 شخص، أكثر من ثلث هؤلاء يطلق تقريبا ، أى أن المعدل المتبقي أربعة لكل ألف ، وهي نسبة تعكس زهدا كبيرا في مفهوم الأسرة ، يرجع في جزء منه إلى طبيعة القوانين المحرضة.
وقد قدمت في صدر المقال بقصة المرأة التي اجتمع على تحريضها الصحبة والقانون .
انتهى المقال الأول ويتبعه المقال الثاني ، وهو علاقة دعوى المناصفة بحق الكد والسعاية.
د/ خالد نصر