حديث رزية الخميس بين السنة والشيعة

  من المسائل التي أثارت جدلًا واسعًا بين مدارس الإسلام الكبرى، واختلفت حولها المرويات والمواقف، مسألة طلب النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه كتابة كتابٍ “لن يضلوا بعده أبدًا”، وهي الواقعة المعروفة في كتب الحديث والسيرة بـ”حادثة رزية يوم الخميس”.
وقد تناقل المحدثون هذا الحديث في صيغ متعددة، منها ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي حضر الموقف وتأثر به، حتى كان يذكره باكيًا، ومنها ما ورد عن غيره من الصحابة، مع تفاوت في الألفاظ والتفصيلات.
وقد أصبح هذا الحديث في القرون التالية محور تأويلات مذهبية متضادة:
● فذهب أئمة السنة إلى أنه من دلائل رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه على هدايتها، وأن امتناعه عن الكتاب كان بعناية إلهية لحكمة أسمى.
● بينما استند إليه الشيعة في بناء جزء كبير من تصورهم لعقيدة الإمامة والنص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعدّوه دليلًا على حصول المنع المتعمد من الوصية بالخلافة لعلي.
ولأجل هذه الحساسية العقدية، فإن دراسة هذه الروايات تستوجب:
● تحقيقًا دقيقًا لأسانيدها ومتونها.
● وتمييزًا بين ما ثبت وصح وما لم يصح.
● وتحليلًا موضوعيًّا للسياق الذي وردت فيه الروايات، بعيدًا عن التحامل أو التعصب.
كما يجب التمييز بين:
● ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نصًّا.
● وما فهمه أو فسّره بعض التابعين أو العلماء في القرون اللاحقة، حتى لا يُنسب إلى الشرع ما ليس منه.
وتهدف هذه المقالة إلى جمع الروايات الواردة في كتب الحديث المعتمدة حول هذا الحدث، وتحليل سياقاتها وظروفها ومضامينها، وبيان الموقف الصحيح منها في ضوء قواعد النظر في التعامل مع النصوص.
مع الرد العلمي على القراءات المغلوطة التي استُثمر فيها هذا الحديث للطعن في مقام الصحابة أو في كمال الدين وتمام البلاغ النبوي.
فالمقصد من المقالة ليس الانتصار لمذهب، بل إحقاق الحق الذي عليه دلائل النقل الصحيح، والعقل الصريح، والله المستعان وعليه التكلان.
أولا: الروايات العامة:
وهذه الروايات لم تخصص ماذا سيكتب في وصيته للأمة ومنها:
– ما رواه البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم وجعه قال: «ائتُونِي بِكِتَابٍ ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَا ‌تَضِلُّوا مِنْ بَعْدِهِ». قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غلبه الوجعُ، وعندنا كتاب اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: «قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ». فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وبين كتابه”.
– وفي رواية للبخاري: ” ….. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزيَّة كُلَّ الرَّزيَّة مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، مِن اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ”. وعبيد الله هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وليس كما ظن بعض الباحثين أنه ابن عبد الله بن عباس.
– ما رواه البخاري بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: “يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه يوم الخميس، فقال: «ائتُونِي بِكِتَابٍ ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَنْ ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا». فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هَجَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ». وأوصى عند موته بثلاث: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ». ونسيت الثالثة. وقال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن، عن جزيرة العرب، فقال: مكة والمدينة واليمامة واليمن. وقال يعقوب: والعرج أول تهامة”.
– وفي رواية للبخاري: ” …… فأمرهم بثلاث، قال: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ». والثالثة خير، إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان” وسفيان هو سفيان بن عيينة راوي الحديث، وسليمان هو سليمان الأحول تلميذ سعيد بن جبير.
– ما رواه مسلم بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى. فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ. فَقَالَ «ائْتُونِي ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَا ‌تَضِلُّوا بَعْدِي» فَتَنَازَعُوا”.
– وفي رواية لمسلم: “…… قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ (أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ) ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَنْ ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَهْجُرُ”.
– ما رواه مسلم بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رجال فيهم عمر ابن الْخَطَّابِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمَّ ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ». فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ. وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ. حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ. فَاخْتَصَمُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‌كِتَابًا لَنْ ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا». قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولغطهم”.
– ما رواه الصنعاني بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصَا، قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَرِّبُوا أَكْتُبْ إِلَيْكُمْ ‌كِتَابًا لَا ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ» قَالَ: فَتَنَازَعُوا، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ. فَقَالَ: «دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» قَالَ: فَأَوْصَى بِثَلَاثٍ عِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوٍ مِمَّا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ»”. قَالَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَعِيدٌ سَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيتُهَا.
– ما رواه ابن سعد بسنده عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس قال: “اشتكى النّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الخميس فجعل، يعني ابن عبّاس، يبكى ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس! اشتدّ بالنّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه فقال: «ائتوني بدواةٍ وصحيفةٍ ‌أكْتُبْ لكم ‌كتابًا لا ‌تَضلّوا بعده أبدًا»، قال: فقال بعض مَن كان عنده: إنّ نبيّ الله لَيَهْجر! قال فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أَوَ بَعْدَ ماذا؟». قال: فلم يدعُ به”.
– ما رواه الطبراني في الأوسط بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: “لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ادْعُوا لِي بِصَحِيفَةٍ وَدَوَاةٍ ‌أَكْتُبْ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَا ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَكَرِهْنَا ذَلِكَ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُوا لِي بِصَحِيفَةٍ ‌أَكْتُبُ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَا ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَقَالَ النِّسْوَةُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ، إِذَا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَصَرْتُنَّ أَعْيُنَكُنَّ، وَإِذَا صَحَّ رَكَبْتُنَّ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُنَّ؟ فَإِنَّهُنَّ خَيْرٌ مِنْكُمْ»”.
وروايات هذه الحادثة مشهورة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ والأدب واللغة بسبب ما ورد فيها، ومن هذه المراجع:
مصنف عبد الرزاق 6/ 90.
الأمالي في آثار الصحابة لعبد الرزاق الصنعاني ص 38.
مسند الحميدي 1/ 457.
الطبقات الكبير لابن سعد 2/ 213.
مسند أحمد 3/ 409 ، 135/5، 233، 352.
أخبار مكة الفاكهي 3/ 40.
مسند البزار ” البحر الزخار” 11/ 108.
السنن الكبرى النسائي 5/ 366، 63/7.
السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 269.
مستخرج أبي عوانة 12/ 606.
صحيح ابن حبان: التقاسيم والأنواع 7/ 748.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 7/ 1367.
ثانيا: الروايات الخاصة:
وهي التي ذكرت ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصي به:
– ما رواه مسلم بسنده عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَرَضِهِ: «ادْعِي لي أبا بكر، وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا. فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى. ‌وَيَأْبَى ‌اللَّهُ ‌وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ».
– ما رواه الحاكم بسنده عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتِنِي بِدَوَاةٍ وَكَتِفٍ ‌أَكْتُبُ لَكُمْ ‌كِتَابًا لَنْ ‌تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، ثُمَّ وَلَّانَا قَفَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»، قال الذهبي: إسناده صحيح.
– ما رواه النسائي بسنده عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: “دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُدِئَ بِهِ فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهْ فَقَالَ: «وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ» فَقُلْتُ غَيْرَى: كَأَنِّي بِكَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَرُوسًا بِبَعْضِ نِسَائِكَ قَالَ: «وَارَأْسَاهِ ‌ادْعِي ‌لِي ‌أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقُولُ قَائِلٌ، وَيَتَمَنَّى تَأَوُّلًا، وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»”.
– ما رواه البيهقي بسنده عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “دَخَل عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُدِئَ فِيهِ، فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهُ، قَالَ: «لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيُّ فَأُصَلِّي عَلَيْكِ وَأَدْفِنُكِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ غَيْرَى: كَأَنِّي بِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ نِسَائِكَ، قَالَ: «أَنَا وَارَأْسَاهُ، ‌ادْعِي ‌لِي ‌أَبَاكِ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ، وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ».
– ما رواه ابن سعد في الطبقات عن نُعيم بن يزيد، أخبرنا عليّ بن أبي طالب: “أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا ثَقُلَ قال: «يا عليّ، ائتني بِطَبَقٍ أكتبْ فيه ما لا تَضلّ أُمّتي بعدي»، قال: فخشيتُ أن تَسبقنى نفسه، فقلت: إنِّي أحفظ ذراعًا من الصحيفة، قال: فكان رأسه بين ذراعي وعَضُدي فجعل يُوصي بالصّلاة والزّكاة وما ملكَتْ أَيْمانُكم، قال: كذلك حتى فاضت نفسُه وأمر بشهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله حتى فاضت نفسه، مَن شهد بهما حُرّم على النّار”.
وهذه الروايات تكررت أيضًا في كتب الحديث والسيرة والأدب ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك، وابن سعد في الطبقات، والنويري في نهاية الأرب.
ثالثا: روايات الشيعة:
وردت هذه الحادثة بكثرة في كتب الشيعة حتى وصفها المجلسي في بحار الأنوار بأنها من المتواتر المعنوي، ومن هذه الروايات:
– ما رواه الطبرسي في الاحتجاج: عن أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام قالَ: “يا طلحةُ، ألستَ قد شهدتَ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله حينَ دعا بالكتفِ ليكتبَ فيها ما لا تضلُّ الأمّةُ ولا تختلف، فقالَ صاحبُك ما قال: إنَّ نبيَّ اللهِ يهجُر، فغضبَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله، ثمَّ تركَها؟ قالَ: بلى، قد شهدتُ ذاك”. ويقصد بصاحبه سيدنا عمر رضي الله عنه.
– ما رواه النعماني في الغيبة: “أنَّ عليًّا عليهِ السلام قالَ لطلحةَ -في حديثٍ طويلٍ عندَ ذكرِ تفاخرِ المُهاجرينَ والأنصارِ بمناقبِهم وفضائلِهم-: يا طلحةُ، أليسَ قد شهدتَ رسولَ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله حينَ دعانا بالكتفِ ليكتبَ فيها ما لا تضلُّ الأمّةُ بعدَه ولا تختلف، فقالَ صاحبُك ما قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ يهجُر، فغضبَ رسولُ الله وتركَها؟ قالَ: بلى قد شهدتُه”.
– ما جاء في كتاب سليم بن قيس الهلالي: قال أبانُ بنُ أبي عيّاش، عن سُليم، قالَ: إنّي كنتُ عندَ عبدِ اللهِ بنِ عبّاس في بيتِه وعندَه رهطٌ منَ الشيعة، قالَ: فذكروا رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وموتَه، فبكى ابنُ عبّاس، وقالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله يومَ الاثنين -وهوَ اليومُ الذي قُبضَ فيه- وحولهُ أهلُ بيتِه وثلاثونَ رجلًا مِن أصحابِه: «ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكُم فيهِ كتابًا لن تضلّوا بعدِي، ولن تختلِفوا بعدي». فمنعَهم فرعونُ هذه الأمّةِ فقالَ: إنّ رسولَ اللهِ يهجُر، فغضبَ رسولُ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله، وقالَ: «إنّي أراكُم تخالفوني وأنا حيٌّ، فكيفَ بعدَ موتي»؟ فتركَ الكتف. قالَ سُليم: ثمّ أقبلَ عليَّ ابنُ عبّاس فقالَ: يا سُليم، لولا ما قالَ ذلكَ الرجلُ لكتبَ لنا كتابًا لا يضلُّ أحدٌ ولا يختلف. فقالَ رجلٌ منَ القوم: ومَن ذلكَ الرجل؟ فقالَ: ليسَ إلى ذلكَ سبيل. فخلوتُ بابنِ عبّاس بعدَما قامَ القوم، فقالَ: هوَ عُمر. فقلتُ: صدقتَ، قد سمعتُ عليًّا عليهِ السلام وسلمانَ وأبا ذرٍّ والمقدادَ يقولون: إنّهُ عُمر. فقالَ: يا سُليم، اكتمْ إلّا ممَّن تثقُ بهم مِن إخوانِك، فإنَّ قلوبَ هذهِ الأمّةِ أشربَت حبَّ هذينِ الرجلينِ كما أشربَت قلوبُ بني إسرائيلَ حبَّ العجلِ والسامري”.
وذكر مثل هذه الروايات المفيد في الإرشاد، والفضل بن شاذان في الإيضاح، والكراجكي في التعجّب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة، والكفعمي في معارج الأفهام وغيرهم.
رابعا: من ينظر إلى الروايات المتنوعة:
يجد أن بعضها روي مختصرا، وبعضها روي مطولا، وهذا شأن الكثير من الروايات، لا سيما روايات الأفعال، لأنها تعتمد على أمور منها القدرة على التذكر وعلى القصد من روايتها، فبعضهم يركز على مطلق الرواية، وبعضهم يوردها للاستشهاد لشيء معين، فيقتصر على موضع الاستدلال.
كذلك يجد نوعين من الروايات:
الأول: وهو الأكثر الأوثق يذكر القصة بدون تحديد المقصود من الكتاب.
الثاني: روايات تحدد بعض مضمون الكتاب، أو ما كان في نيته صلى الله عليه وسلم أن يكتبه.
لكن القاسم المشترك بين مجمل الروايات هو الآتي:
١- أن الحادثة وقعت في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم، وبعضهم حددها بأربعة أيام قبل وفاته، أي يوم الخميس.
٢- أن عدد الحضور كان كبيرًا نسبيًّا، ولم يقتصر على عدد محدود، بدليل كلمات مثل: (اللغط، الاختلاف).
٣- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في حالة صحية جيدة، بدليل ما قاله البعض عن حاله، وكذلك بدليل صرفه إياهم.
٤- أن خلافًا وقع بين الحاضرين في الامتثال للطلب، وبين مشفق على النبي صلى الله عليه وسلم في حالته هذه، وكذلك بين من اعتمد الطلب مباشرة، ومن أراد أن يتأكد مرة أخرى، وهذا راجع لكثرة الحضور حوله في هذا اليوم.
٥- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الطلب مرة أخرى، وإنما أمرهم بالانصراف. يتفق في هذا القدر الروايات السنية والروايات الشيعية.
وهناك قدر آخر اختلفت في ذكره الروايات إيرادا أو تجاهلا، لفظًا ومعنى، ومن ذلك:
١- اسم القائل بترك النبي لمرضه، فبعضها صرح باسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعضها عمم.
٢- قولهم (هجر) هل جاء على سبيل الخبر أو جاء على سبيل الإنشاء، فبعضها جعله خبرًا، وبعضها جعله استفهامًا.
٣- تعليق ابن عباس، فبعضها ذكر قول ابن عباس، وبعضها لم يذكره.
خامسا: تعليق على مجمل الروايات:
التعليق الأول: تفسير الهُجْر:
(الهُجْر) في اللغة بضم الهاء وسكون الجيم هو التخليط في الكلام أو الهذيان، والفعل منه (هَجَرَ) بفتح الهاء والجيم.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزروها ولا تقولوا هُجْرًا» بضم الهاء هو القول الممنوع أو الفاسد، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا طفتم بالبيت فلا تلغوا ولا تهجُروا» بضم الجيم وفتحها، وهو محتمل للقول الفاسد أو القول الفاحش.
و(الهَجْر) بفتح الهاء وسكون الجيم هو الترك، والفعل منه (هَجَرَ) بفتح الهاء والجيم. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يسمعون القرآن إلا هَجْرًا» أي إعراضًا وتركًا، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من الناس من يذكر الله إلا مُهَاجِرًا» والمقصود هنا إعراض القلب مع إقبال اللسان.
لقد عرض لتفسير هذا اللفظ بصيغه المتنوعة في الروايات كل من شرح هذا الحديث وهم كثر،
وسأنقل بعضًا من ذلك:
تفسير القرطبي رحمه الله:
(وقوله: أهجر؟ استفهموه)؛ كذا الرواية الصحيحة في هذا الحرف (أهجر؟) بهمزة الاستفهام، وهجر بالفتح بغير تنوين على أنه: فعل ماض. وقد رواه بعضهم: (أَهُجْرًا) بفتح الهمزة،وبضم الهاء، وتنوين الراء، على أن يجعله مفعولا بفعل مضمر؛ أي: أقال هجرا. وقد روي في غير “الأم”: هجر بلا استفهام. والهجر: يراد به هذيان المريض، وهو: الكلام الذي لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته.
ووقوع مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في حال مرضه أو صحته محال؛ لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه عما يخل بالتبليغ؛ ألا تسمع قوله تعالى: ﴿‌وَمَا ‌يَنْطِقُ ‌عَنِ ‌الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3-4]، وقوله تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحق المبين، إلى غير ذلك؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقا»، ولما علم أصحابه هذا كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته، حتى في هذه الحالة، فإنهم تلقوا عنه، وقبلوا منه جميع ما وصى به عند موته، وعملوا على قوله: «لا نورث». ولقوله: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». و«أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم».
إلى غير ذلك. ولم يتوقفوا، ولا شكوا في شيء منه. وعلى هذا: يستحيل أن يكون قولهم: (أهجر؟)، لشك عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف، أتظن: أنه قال هذيانا؟ فدع التوقف وقرب الكتف، فإنه إنما يقول الحق، لا الهجر. وهذا أحسن ما يحمل ذلك عليه. فلو قدرنا أن أحدًا منهم قال ذلك عن شك عرض له في صحة قوله؛ كان خطأ منه، وبعيد أن يقره على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة، وكبرائهم، وفضلائهم. هذا تقدير بعيد، ورأي غير سديد. ويحتمل: أن يكون هذا صدر عن قائله عن دهش وحيرة أصابه في ذلك المقام العظيم، والمصاب الجسيم).
تفسير ابن حجر رحمه الله:
فبعد أن ذكر كلام القرطبي السابق قال: (ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية فقال بعضهم: إنه قد غلبه الوجع، ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث، فقالوا: ما شأنه يهجر؟ استفهموه.
وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليهجر، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك: استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام أي: اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى أولا، وفي قوله في الرواية الثانية فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم ما يشعر بأن بعضهم كان مصممًا على الامتثال والرد على من امتنع منهم ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر، وقد مضى في الصيام أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر فرأى رجلين يختصمان فرفعت).
وعلى ذلك نستطيع أن نجمل الاحتمالات في الآتي:
١- أن كلمة (هجر) أو (أهجر) أو (أقال هجرانا) جاءت على الاستفهام وليس على سبيل الخبر، وأن المقصود بها استفهام تعجبي ممن قال: إن الوجع أخذ بالنبي عليه الصلاة والسلام فدعوه ولا تتعبوه، فردوا عليه بما يوافق مرادهم ويدل على رغبتهم في إحضار القرطاس. ونحن نفعل ذلك في كلامنا فنذكر وصفا معينا، لا على قصد الوصف، ولكن لإلزام المخالف بعكس الوصف.
٢- أن تكون الألفاظ المتنوعة جاءت على سبيل الاستفهام أيضا، ولكن الاستفهام عن أمر آخر، وهو هل ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مصرًّا على إحضار الكتاب أو غير رأيه بعد خلاف الصحابة وسماعه لكلا الرأيين، وتكون (هجر) هنا بمعنى: أعرض، أي اسألوه هل ما زال يريد الكتاب أو أنه أعرض وترك.
٣- أن يكون الكلام جاء على سبيل الخبر سواء بالهمز أو بغيره، وهنا قال أكثر العلماء أنه إن وقع على ذلك الوجه، فيكون قد وقع من بعض حديثي الإسلام الذين حضروا لما علموا بمرضه، لا سيما أنه بقي في مرضه وقتًا، وبيته كان مليئًا بالناس، وهنا لا يكون مقصودهم الحط من قدره الشريف، ولكن أنهم نظروا للجانب البشري فيه صلى الله عليه وسلم، على حسب معارفهم السابقة في أحوال من يصاب بالحمى الشديدة.
٤- أن يكون الأمر أيضًا على سبيل الخبر أو الاستفهام منه صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج خطأ من حالة الذهول التي أصابت البعض، لا سيما الذين يرونه على هذه الحال من الضعف والمرض، وهم في ذات الوقت مشفقون، وهذه حال يمكن أن يصدر عنها تعبيرات قد لا تليق، ولها نظائر في عالم الرواية، في ردة الفعل للفرح الشديد، أو الحزن الشديد. وقد رفع الله تعالى عن هذه الأمة إثم الخطأ إن وقع.
وعلى كل الاحتمالات لا يُفْهَمُ من السياق تنقيص من قدره الشريف بحال، وأن ما زعمه الشيعة من قصد التنقيص مردود وذلك للآتي:
١- أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع ما دار بينهم، وكان أحرص الناس على صيانة مقام النبوة، ومع ذلك لم يُنكر قول من قال: (أهجر؟) بل اقتصر تعليقه على ذمّ الاختلاف، فقال: «قوموا عني، لا ينبغي عند نبي تنازع»، ولو كان في قولهم ما يقدح في عصمته أو نبوته، لكان من المتعين عليه أن يبيّنه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو المبلّغ عن ربه حتى آخر أنفاسه.
وروايات السنة والشيعة تقول: أنه طلب منهم الخروج، وعلل ذلك باختلافهم، وأنه منصرف إلى أمر أهم أو أفضل.
والسؤال: لماذا لم يعلق النبي على قولهم: (أهجر) إذا كان فيه تنقيص كما رد على من قال له: اعدل؟
٢- أن عليًّا رضي الله عنه كان حاضرًا تلك الحادثة، كما دلت عليه روايات الفريقين، ولم يُنقل عنه –لا في تلك اللحظة ولا بعدها– اعتراض أو إنكار على من قال: (أهجر؟)، بل لم يُبدِ غضبًا أو استنكارًا، مع كونه من أجرأ الناس في الحق وأكثرهم غيرة على مقام النبوة، فلو كان في القول طعن حقيقي، لما جاز له السكوت، خاصة في مقام كهذا، وقد نُقل عنه الغضب في مواضع دون هذا شأنًا. فلا توجد رواية حتى عند الشيعة تقول: إن عليًّا انتصب ولام الصحابة على اتهامهم للنبي بالهجر!.
٣- روى السنة والشيعة رواية ذكرت كلام ابن عباس وأنه اعتبر ما حدث (رزية)، وقد عبّر ابن عباس عن حزنه وندمه على فوات الكتابة، ومع ذلك لم ينقل عنه أنه استنكر قول القائل: (أهجر؟)، ولا احتج به في وجه من منعه، مع أنه كان حريصًا على تقرير وجهة نظره، فلو كان في القول قدح في مقام النبوة، لكان إنكاره أولى من غيره، أو على الأقل استثماره كدليل على خطأ من منعه، لكنه لم يفعل.
٤- أن النبي صلى الله عليه وسلم تعافى نسبيًّا لاحقًا بعد تلك الحادثة، واستمر في إعطاء بعض التوصيات، وفي الحديث مع أصحابه. ولم يُعرف أنه قال: “من قال كذا فقد طعن في نبوّتي”، أو أنه أنكر عليهم القول. وهذا سكوت في مقام البيان، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ في ذلك القول ما يستوجب التوبيخ أو العقاب.
وعلى ذلك فإن الثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام وأقرب الناس له من الصحابة، لم يُبدوا اعتراضًا على كلمة (أهجر؟)، مما يدل على أن السياق لم يُفهم على أنه طعن في النبوة، بل كان من باب الاستفهام المشوب بالدهشة، وليس من باب الجزم أو الاتهام. والواجب أن يُفهم النص بمراد المتكلم وسياق الحادثة، لا تأويلات لاحقة تُحمّله ما لا يحتمل.
التعليق الثاني: نسبة الكلام لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
بالنظر للروايات السنية لا نجد رواية واحدة صحيحة ولا مرسلة تقول بأن قائل: (هجر) أو (أهجر) هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكلمة مثل هذه لو قالها عمر لرواها الكافة عنه، حتى وإن تأولوها، فكون الروايات السنية لا تسمي اسم من قال هذه الكلمة، فبالقطع هو ليس عمر بن الخطاب.
ومثل ذلك نجده أن الكثير من الروايات الشيعية لا تصرح باسم القائل، وبعضها الآخر يصرح باسم سيدنا عمر رضي الله عنه.
ولتفنيد دعاوى الشيعة أقول:
١- إن منهج الشيعة في الرواية مختلف عن منهج أهل السنة، فعلى الرغم أنه لدى الشيعة الإمامية أسانيد متصلة من حيث الشكل، لكن من حيث منهج التوثيق والتعامل مع الرواة، فهناك فروقات جوهرية تجعل الأسانيد عندهم أضعف معيارًا وأكثر اضطرابًا مقارنةً بما عليه علم الحديث عند أهل السنة. وبيان ذلك:
من جهة الإسناد: نجد أنه الأصل في عمل الرواية عند أهل السنة والجماعة، على حين أن العمل بالإجماع أو قول المعصوم يغلب في التطبيق عند الشيعة، فلا حاجة للإسناد عند الرواية عن المعصوم.
ومن جهة اتصال السند: يشترط فيه السماع أو الرواية المباشرة المتصلة عند أهل السنة، على حين عند الشيعة يُصرّح بالاتصال أحيانًا، لكن كثيرًا ما يوجد إرسال وانقطاع، ويقبلونه في الفقه والعقيدة.
ومن جهة الجرح والتعديل: نجد عند أهل السنة الدقة والوضوح عبر علم الجرح والتعديل الدقيق، على حين لا يوجد علم جرح وتعديل منظّم بنفس الدقة عند الشيعة، وغالبًا يُوثَّق الراوي بناءً على موافقته للمذهب أو توثيق المتأخرين، ما أدى ببعضهم إلى أن يقبل روايات الغلاة والمجاهيل إن نقلوا عن المعصوم، ويبررون ذلك بما يسمونه “تسامح في أدلة السنن”.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكثير من الروايات التي أوردها الحكائيون الشيعة منقولة من كتب السنة أنفسهم كالنقل عن المسند وكتب السنن والمعاجم، وهي لا تصرح باسم القائل، نصل إلى نتيجة وهي أن رواية الشيعة في تحديد الاسم لا تسلم من جهة الرواية ولا الدراية، وأنها لا تصح معتمدا.
والحق أن هذه اللفظة (يهجر) لم تنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أي رواية لا في الصحيحين ولا في غيرهما من كتب أهل السنة كما يدعون، نعم هي ثابتة في الصحيحين وغيرهما لكن ليست عنه رضي الله عنه، والصحيح كما في الروايات الصحيحة أن من قالها هم بعض الحاضرين كما في رواية الشيخين.
٢- يرد على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على عمر رضي الله عنه، ولم يصوبه بالاسم ولم يأخذ منه موقفًا، وإنما خاطب الجميع.
٣- وقعت خلافات بين سيدنا عمر وبعض كبار الصحابة بعد ذلك كخالد بن الوليد، والمؤلفة قلوبهم، وأبي سفيان بن حرب، والعباس بن عبد المطلب، ولم يذكره واحد منهم بما زعم أنه قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي مواطن الخلاف قد تستحضر المثالب.
وحين سماه أبو بكر الصديق خليفة من بعده، ذكر الصحابة تخوفهم من شدته، ولم يذكر واحد منهم قصة المقولة هذه، وقد كانت كافية لتأليب الناس عليه من رافضيه!
فالسكوت الجماعي من النبي والصحابة قرينة نافية للطعن.
التعليق الثالث: ماذا كان سيكتب النبي عليه الصلاة والسلام في كتابه:
اختلفت نظرة الشيعة والسنة في ذلك، فذهب الشيعة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينص على ولاية علي من بعده، وذهب السنة إلى أن ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم محتمل، يحتمل النص على الخليفة، ويحتمل أمورا أخرى مثل بيان بعض الأحكام.
وأنا سأعلق على ذلك في النقاط التالية:
١- أورد الشيعة روايات أشرنا إليها أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يسمي خليفته وأنه علي بن أبي طالب، وذكرت بعض روايات السنة أنه أراد أن يسمي أبا بكر نصا لا كناية. والصواب خطأ الفكرتين، وذلك لأنه يخالف منهج الشورى في اختيار ولي الأمر الذي أراد النبي والذي وردت به أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النص من السابق للاحق سيكون هو سنته، ولا يمكن تغيير هذه السنة.
الأمر الثاني أن أمر الخلافة من بعده أمر هام جدًّا، ولا يصح أن يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل وفاته بأيام، وقد كان عنده متسع من الوقت أن يعين ولي عهده، بل ويجعله يمارس مهام ولاية العهد كما كان يستخلف على المدينة حين يخرج في سفر أو غزو. كما أن قول الشيعة هنا يعارض ما ذكروه من قبل أن ولاية العهد لعلي كانت قد تمت بالفعل عند غدير خم ورضي بها الجميع، فلماذا يعيد النبي هذا الأمر مرة أخرى؟!
والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مسألة الخلافة، لأنه كان يعلم بالوحي ما سيكون.
قال ابن تيمية رحمه الله في المنهاج: (من جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليًّا خليفة …ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصًّا جليًّا قاطعًا للعذر، فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب، فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟).
٢- كانت هناك بعض الأمور في الشريعة ما زالت تلتبس على بعض الصحابة، بل على الكثير، وكانوا قد تمنوا أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيانًا أكثر وضوحًا، يغلق باب الاجتهاد فيها.
فمن ذلك مثلا بعض ما يتعلق بالربا.
وبعض أحكام الكلالة.
وحكم من شرب الخمر.
وبعض أمور المواريث كميراث الإخوة من الأبوين مع الإخوة من أم، وميراث الجدة.
فلعل النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يشرحها بصورة أوضح، بدليل قوله: «لا تضلوا بعده أبدًا» والضلال هنا لا يحتمل إلا معنى الاختلاف؛ لأن الضلال المطلق غير محتمل هنا، حيث لا يوجد كتاب يمنع من وقوع الضلال، ولا حتى القرآن الكريم، حيث إن القرآن ما زال بين يدي الأمة، وما زال يقع الضلال والزيغ، إما بالرد أو سوء الفهم. فلا يبقى إلا ما ذهبنا إليه من تجلية بعض الأمور التي قد تؤدي إلى اختلاف الآراء.
٣- أن الكتاب لو كان حتميًّا أو مما يجب عليه أن يبلغه لأمته لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، لا لقول عمر بن الخطاب ولا لقول غيره، ولما استطاع أحد مهما بلغ أن يحول بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكتابة، لأن إقداره على البلاغ هو من وعد الله له، والله لا يخلف وعده.
٤- أن القول بأن النبي كان سيذكر أمرًا لا تحتمله النصوص الموجودة، أو أنه كان سينشئ أمرًا جديدًا، يرد على قوله تعالى: ﴿‌الْيَوْمَ ‌أَكْمَلْتُ ‌لَكُمْ ‌دِينَكُمْ ‌وَأَتْمَمْتُ ‌عَلَيْكُمْ ‌نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فكيف ينزل النص بالإكمال ثم يأتي الجديد غير المسبوق؟! حتى ما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم من إخراج المشركين من جزيرة العرب ومجازاة الوفد، فكله في القرآن.
التعليق الرابع: قول ابن عباس رضي الله عنهما:
تتفق الروايات السنيّة والشيعية على أن ابن عباس كان يتمنى لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب هذا الكتاب، واعتبر ذلك رزية كما تصرح الروايات، وأنه كان أحيانا يبكي على فوات ذلك الكتاب.
وأنا سأعلق على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: ما نقله الرواة من قول ابن عباس: (الرزية كل الرزية) والرزية في اللغة هي المصيبة العظيمة أو البلية الشديدة. وتستخدم لوصف حدث مؤلم ومؤسف يلحق بالإنسان. أصل الكلمة من الفعل “رزأ” بمعنى أصاب بمكروه أو ابتلى. ورُزئ فلان أي أصابته مصيبة، وتخفف همزته.
فمقصود ابن عباس هنا أن ما وقع هو في رأيه مصيبة.
لكن ما المقصود بالرزية هنا؟
الذي قصده ابن عباس هنا هو الاختلاف الذي حدث بين الحضور، بين من يقول: نأتي بالقرطاس. ومن يقول: إن الوجع قد اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم والرأفة تقتضي ألا نرهقه، فهذا الاختلاف أدى إلى إعراض النبي عن الكتابة، فاعتبر ابن عباس الاختلاف في هذا الموضع رزية وبلية، بدليل قوله: (الرزية كل الرزية ما حال) ولم يقل (من حال) فهو يشير لمعنى وليس لعاقل، بدليل استعمال (ما).
الوجه الثاني: لماذا حزن ابن عباس؟
ذكر البعض أن ابن عباس اعتبر ذلك مصيبة لأن النبي كان سيعين خليفته، والغريب أن بعض الفريقين السنة والشيعة ذهبوا لذلك، فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وقول ابن عباس رضي الله عنه: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب. يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه).
وأما الشيعة فيعتبرون مقصود ابن عباس بالرزية هو المنع من تسمية علي في كتاب مخصوص، فيروي السبحاني في الإنصاف مناقشة بين عمر بن الخطاب وابن عباس يقول عمر: (يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، قال: لكنّي أدري. قال: ما هو، يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتُجْحفوا الناس جحفًا، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت، ووفقت، فأصابت).
والصواب أن ابن عباس كان طالب علم مجتهد، وطبيعة طالب العلم النهم، وطلب الممنوع، وكان مع صغر سنه يطلب العلم من كافة الصحابة، حتى فاقت رواياته غيره من الصحابة أصحاب الأسنان. فتحسر على فوات فرصة علم جديد، حتى لو كان بيانًا لما سبق.
وابن عباس أعلم من أن يظن اختلاف الصحابة يمنع من واجب البلاغ فيما يتوجب، وإلا كان يتهم النبي ويتهم عصمته.
ونظير ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب، ولكنه قال: ﴿‌إِنْ ‌سَأَلْتُكَ ‌عَنْ ‌شَيْءٍ ‌بَعْدَهَا ‌فَلَا ‌تُصَاحِبْنِي ‌قَدْ ‌بَلَغْتَ ‌مِنْ ‌لَدُنِّي﴾ [الكهف: 76]»).
أي: يرحم الله نبيه موسى أيضا، “لو صبر”، أي: تحمل وتمالك نفسه مع الخضر فحبسها على المسير معه إلى آخر رحلته، “لرأى من صاحبه”، أي: الخضر، “العجب”، أي: أشياء أخرى لم يعتد رؤيتها، “ولكنه قال: ﴿‌إِنْ ‌سَأَلْتُكَ ‌عَنْ ‌شَيْءٍ ‌بَعْدَهَا ‌فَلَا ‌تُصَاحِبْنِي ‌قَدْ ‌بَلَغْتَ ‌مِنْ ‌لَدُنِّي﴾”، أي: ألزم نفسه بألا يسأله، ثم سأله؛ فانتهى الأمر بين موسى والخضر.
فيخرج الكلام مخرج التمني لا مخرج اللوم.
الوجه الثالث: أن واقع الحال يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن مقدرا له أن يكتب هذا الكتاب بحال، سواء اختلف الناس حوله أو لسبب آخر، وهذا يشبه ما جاء في قصة تحديد ليلة القدر كما جاء في حديث البخاري من رواية عبادة بن الصامت قال: “خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة»)، ولا يقول قائل: نلوم هذين الصحابيين، أو أنه بسببهما المباشر ضاع على الأمة معرفة ليلة القدر تحديدًا، لكن الصواب أنه لم يكن مقدرًا شرعًا للنبي أن يبلغ هذا القدر من العلم، حتى وإن أحب هو ذلك رأفة بأمته، لا سيما أن ليلة القدر تستحق من الأمة الاجتهاد في تحصيلها، لا الركون للرواية في معرفتها.
الوجه الرابع: سبب بكاء ابن عباس:
الأغلب أن ابن عباس حين تذكر ذلك اليوم، وهو شاهد عيان وما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم من شدة، استحضر ذلك عنده مشاعر الفقد فبكى، لا أنه بكى من عظم الجرم كما يصور ذلك بعض الشيعة؛ لأن المقام على تفسيرهم لا يقتضي بكاء بل يقتضي غضبًا وربما نقدًا مباشرًا لمن تسبب في ذلك، وهذا لم يقع.
ومن ذا الذي لا يبكي بل وينتحب حين يتذكر مرضه صلى الله عليه وسلم ومدى حبه ورغبته في خدمة أمته لآخر لحظة، ولا يتأثر بهذا الموقف، فإذا أضفنا لذلك أن ابن عباس كان ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ومن قرابته كان البكاء لتذكّره مبررًا جدًّا.
وبالجملة لا يصح حمل كلام ابن عباس على ما حمله عليه الشيعة من حسرته على فوات واجب، لأن ذلك لا يطعن فقط في بعض الصحابة، بل يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعل منه نبيًّا مسلوب الإرادة، يتحكم فيه بعض أصحابه، وهو الذي عصمه الله سبحانه وتعالى. ويطعن أيضا في دين الشيعة قبل السنة لأن أئمتهم سكتوا وسكنوا على باطل؟ وهم المعصومون، فكيف يكون دين المعصوم فيه نقص؟!
إن فهم رزية يوم الخميس على أنها طعن في بعض الصحابة أو في تمام تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم يناقض أصول العقيدة، ويفتح بابًا خطيرًا للتشكيك في عصمة النبوة وفي كمال الدين. وإنما الصحيح الذي يشهد له السياق ويؤيده النظر الصحيح، أن ابن عباس رضي الله عنه إنما تأسف على فوات علمٍ كان يرجو أن يُكتب، لا على فوات واجبٍ لم يُؤدَّ، ولا على غلبةٍ من الصحابة على أمر النبي، فحاشاهم وحاشاه. وكان بكاؤه بكاء المحب الصادق الذي تألم لمرض نبيه، وتحسّر على لحظة كان يرجو أن تطول، لا بكاء السخط والاعتراض كما يدعي من لا يعرف مقامات الصحابة ولا يفقه أسرار النبوة.
فهذا الوجه الذي يجمع بين تعظيم مقام النبي، والعدل في حق أصحابه، والفهم السليم لنصوص الوحي والسيرة، هو وحده الذي ينبغي أن يُقدَّم، ويُفهم به حديث الرزية، بعيدًا عن التأويلات المذهبية التي تحمل النصوص على غير وجهها، وتجعل منها ذريعة للقدح في الدين وأهله.
د. خالد نصر

موضوعات ذات صلة