عندما يتحكم الوهم

الوهم: هو تصور ذهني لا يطابق الواقع، ولكنه يبدو لصاحبه صحيحًا.
والوهم له صور يتجلى فيها منها:
– الصورة البصريّة: وذلك كرؤية السراب مثلا، فيتوهم الماء على بعد.
– والصورة النفسية: وذلك كمن يشعر أنه مريض وهو ليس كذلك، ونسمي ذلك الوسواس.
– والصورة العقلية: وذلك أن تقنع نفسك بأمور وتعطيها درجة الحقيقة.
وهذا النوع الأخير هو أخطر أنواع الوهم؛ لأن الوهم في الصورة الأولى يظهر بطلانه بمجرد التدقيق، وفي الثانية يشعر المريض بمرضه، وهي تؤدي للتردد أكثر من الفعل.
أما الصورة الثالثة فهي صورة خطيرة لأنها تعتمد على الإيمان بصحة المعتقد والتصرف على مقتضى هذا الإيمان.
لقد عبر أمير الشعراء عن ذلك في قصيدته البائية المشهورة حين قال:
غلبوا على أعصابهم فتوهموا *** أوهام مغلوب على أعصابه
وأنا هنا سأذكر نماذج عملية على تأثير الوهم الذي ربما يؤدي لكوارث للأفراد والأمم:
النموذج الأول: أوهام عبد الحكيم عامر:
عبد الحكيم عامر (1919–1967) كان قائدًا عسكريًّا وسياسيًّا مصريًّا بارزًا، وأحد رجال ثورة 23 يوليو 1952. شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة ونائب رئيس الجمهورية في عهد جمال عبد الناصر. قاد الجيش المصري خلال حرب 1967، وتحمّل مسؤولية الهزيمة، ما أدى إلى عزله. توفي في ظروف غامضة، قيل إنها انتحار، ولا تزال وفاته موضع جدل حتى اليوم.
سيطر على عبد الحكيم عامر وهم منذ سنة 1956، وذلك أن من يملك التفوق الجوي يكسب المعركة، وأنّ الجندي لا يمكن أن يحارب دون غطاء جوي مستمر.
وهذا وهم كبير، لإن الحرب العالمية الثانية أثبتت بطلان ذلك الزعم، حيث كان التفوق الألماني في الجو واضحًا في الجبهة الشرقية، حين دمرت قوات اللوفتوافا الألمانية الطائرات الروسية والمطارات في أول الحرب، وبقي الجنود الروس بدون غطاء جوي، ومع ذلك ثبت الروس في مواقعهم على الأرض، واستعملوا كل أدوات الدفاع؛ من المباني المدمرة، ومواسير المجاري الكبيرة، حتى أرهقوا الجيش الألماني السادس الذي استسلم لهم، وبدأت الحرب تسير ضد الألمان حتى انتهت بانتصار روسيا واحتلال برلين.
والتفوق الجوي الكاسح لقوات الحلفاء ضدّ روميل في الصحراء الليبية المفتوحة، لم يمنعه من الانتصار في معارك شهيرة، منها معركة الغزالة التي كانت في صحراء مكشوفة، وواصل تقدمه في صحراء مصر الغربية، ولم يهزمه في النهاية إلا ضعف الإمدادات، ولو أمدّته ألمانيا بما طلب من أسلحة برية لاحتل الشرق الأوسط كله في شهور.
وكذلك الحرب الكورية أثبتت ذلك، حيث لم يفلح التفوق الجوي الأمريكي في القضاء على القوة الصينية التي تدخلت لنجدة كوريا الشمالية.
وكذلك الحرب الفيتنامية الأمريكية التي كانت قد بلغت ذروتها؛ ففي عام 1965 بدأ القصف المكثف لشمال فيتنام (عملية Rolling Thunder) ومع ذلك، لم يستطع الجيش الأمريكي كسر إرادة المقاومة، وهزم في النهاية.
كل هذا وغيره كان معروفًا، ولكن سطوة الوهم العقلي الذي يتحول لدرجة تشبه الإيمان الديني جعلت عبد الحكيم عامر يصدر أمرًا كارثيًّا بانسحاب الجيش المصري كاملا من سيناء وغزة في ليلة واحدة، وذلك بعد أن علم بتدمير الطيران الإسرائيلي لكل المطارات والطائرات المصرية على الأرض في هجوم الساعات الست المشهور سنة 1967.
أصدر عامر الموهوم أمرًا ترتب عليه انهيار الجبهة، وفرار القادة، وتبعثر الجنود في الصحراء، وخروج الأسلحة من خنادقها، وتكدسها على طرق الانسحاب الثلاثة، مما جعلها فريسة سهلة للطائرات، لدرجة أن الصهاينة أرسلوا طيارين تحت التدريب ليتدربوا بصورة عملية وهم في مأمن من المقاومة.
ترك عامر كل سيناء بسهولة شديدة، مع العلم أن الخطة العسكرية الإسرائيلية كانت لا تحلم باحتلال سيناء كاملة، بل المعلن أنها كانت تريد تدمير البنية التحتية العسكرية المصرية في سيناء، وإبعاد خطر الجيش المصري عن حدودها. وإعادة فتح مضيق تيران للملاحة الإسرائيلية (الذي أغلقته مصر قبيل الحرب). وبعض التقارير تقول إنهم كانوا يقدرون التوقف عند جبل لبنى وهو يقع في وسط سيناء، وله موقع إستراتيجي يرتبط بممرات طبيعية تؤدي شرقًا نحو العريش وغربًا نحو قناة السويس. أو على أقصى تقدير الوصول للمضايق، وليس احتلال كل سيناء.
ولكن وهم عبد الحكيم عامر سلم لهم سيناء كاملة، وترك لهم أسلحة ما زالت صالحة منها حوالي 700 دبابة، وأكثر من عشرين طائرة ومئات الشاحنات والسيارات المجهزة، وبعضها استخدم لاحقًا في الجيش الإسرائيلي نفسه بعد إعادة طلائه، ورادارات وأنظمة دفاع جوي، وآلاف من الأسلحة الخفيفة، لدرجة أن بعض المصادر الغربية وصفت هذه الغنائم بأنها “جيش كامل حصلت عليه إسرائيل دون أن تصنعه أو تشتريه”.
وهم شخص دمر جيشًا وهزم بلدًا، والغريب أن أكثر القادة كانوا يخالفون هذا الوهم، بل إن الإسرائيليين صعقوا لما علموا بأمر الانسحاب، في الوقت الذي كانت فيه الفرق المصرية ما زالت تقاتل بقوة !!
وكما قال الشاعر اللبناني إبراهيم المنذر:
ويُقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
النموذج الثاني: وهم لعنة الفراعنة:
هناك خرافة تقول بأن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت.
ولهذه الخرافة أصل، فقد وجد على كثير من القبور المصرية دعوات منسوخة على من ينبشون قبور الملوك.
وفي القبور المصرية الفرعونية ما يسمى (الرصد) وهو تمثال يقام في مدخل القبر لتخويف اللصوص، حيث كانوا يتوهمون أنه مزود بالروح وبالسلاح، وأنه يقتل من يدخل القبر بدون استئذان.
والغريب أنه بعد اكتشاف مقبرة الملك الذهبي توت عنخ آمون، حدثت عدة حوادث أكدت هذا الوهم.
كان اللورد كارنارفون من المولعين بالآثار المصرية، وقد سمح له غناه أن ينفق على الحفريات بسخاء، فكلف المستر هوارد كارتر أن يحفر في (وادي الملوك) بالأقصر عساه يهتدي إلى مقبرة لم يهتد إليها اللصوص في العصور الخوالي.
وبعد متاعب عثر المستر كارتر على مقبرة توت عنخ آمون في سنة 1922. ولكن حدثت عدة حوادث غذت الخرافة منها:
1. اللورد كارنارفون:
أبرق إليه المستر كارتر فحضر على عجل ليشهد الكشف الجديد، وبعد أيام لسعته بعوضة وهو نائم في خيمة بجوار المقبرة فمات.
2- انقطع التيار الكهربائي في القاهرة لحظة وفاته.
3- المليونير الأمريكي جورج جاي جولد أصابته حمى شديدة بعد زيارته المقبرة، ثم توفي في فرنسا لاحقًا.
4- دكتور أرشيبالد دوجلاس أخصائي الأشعة الذي فحص مومياء توت عنخ آمون، توفي بسبب الحمى أيضا قبل أن ينتهي من تقريره.
5- السير إيفلين وايت الأخ غير الشقيق للورد كارنارفون، وكان على صلة بالمقبرة. انتحر بعد إصابته بعمى جزئي وحالة اكتئاب حاد.
كتب قبل انتحاره رسالة قيل إنها تحتوي على عبارة: “لقد استسلمت للعنة”.
6- آرثر ميس مساعد هوارد كارتر في التنقيب: توفي سنة 1928 بعد معاناة طويلة مع مرض عصبي غامض.
وجاءت وفاته بعد تدهور صحته فور دخوله المقبرة.
وقد تتبعت الصحف حياة بعض من زار المقبرة وركزت على ما وقع لهم للتركيز على فكرة لعنة الفراعنة، فمثلا الأمير علي كمال فهمي قُتل على يد زوجته الفرنسية في فندق “سافوي” بلندن بعد زيارته المقبرة، فربط ذلك بلعنة الفراعنة.
والغريب أن كل هذه الحوادث لها ما يبررها طبيًّا، مثل ما ذكره بعض العلماء عن تأثر بعض هؤلاء بالهواء الفاسد الذي في المقبرة، وكذلك المشاهد المخيفة التي قد تؤدي لاضطرابات نفسية.
لكن وهم لعنة الفراعنة سار بين الناس، لا سيما أنه يعتمد في جملته على جزء غيبي، وهو محبب لعقول كثير من الناس.
ولا يسأل هؤلاء، أين كانت لعنة الفراعنة حين غرق جيش فرعون كاملا؟ وأين كانت لعنة الفراعنة حين احتل الإسكندر مصر؟ ومن بعده الرومان؟ وأين كانت لعنة الفراعنة حين سرقت المقابر الفرعونيّة ومنها أكثر من 32 ألف قطعة موجودة في دول العالم؟
والغريب أن وهم لعنة الفراعنة صدقه الجميع بما فيهم الأميرة الإنجليزية ماري ابنة جورج الخامس، والتي كان اللورد كارنارفون أهدى إليها عقدًا من العقود المأخوذة من المقبرة ففرحت به فرحًا عظيمًا، فلما سمعت أن بعوضة لسعته فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلحقها لعنة الفراعنة.
والغريب أيضا أن فكرة لعنة الفراعنة انتقلت لشعوب أخرى بنفس الطريقة، فمن ذلك مثلا قصة قبر تيمورلنك، فيقال إنه عندما فتح السوفييت قبر تيمورلنك في أوزبكستان عام 1941، وجدوا نقشًا على قبره يقول:
“من يفتح قبري سيطلق العنان لغازٍ أشد تدميرًا مني”.
وللمصادفة أنه بعد أيام من فتح القبر، اجتاحت ألمانيا النازية الاتحاد السوفيتي (عملية بارباروسا). وربط الناس الحادثة بوهم “اللعنة”، رغم أن الهجوم كان مخططًا له مسبقًا من شهور كثيرة.
وزاد من ذلك أنه حين أُعيد دفن تيمور وفقًا للطقوس الإسلامية، بعد مدة بدأت معركة ستالينغراد التي هزم فيها الألمان، فزادت الأسطورة.
الوهم كثيرا ما يُمنَح في الأذهان درجة “الحقيقة” رغم أنه ليس سوى تصور خاطئ أو مُضخَّم أو متخيل.
ومن الأوهام كثيرة الدوران بين الناس الآن مثلا:
– وهم ادعاء المعرفة الكاملة للأشياء، والاعتقاد بأننا نعرف كل ما يلزم عن موضوعٍ ما، أو عدة موضوعات، لا سيما بين طائفة رجال الدين والسياسيين.
وهم الاستثناء حين يظن الإنسان أنه مختلف عن جملة البشر، وأن ما يصيب الآخرين لا يمكن أن يصيبه، وكثيرًا ما يحدث هذا مع الطغاة؛ فمثلا لويس الرابع عشر كان يحكم بما يعرف في أوروبا بالحق الإلهي وكان يقول: “أنا الدولة”، وتم التعامل مع معارضته كمعصية لله.
وكل طاغية يقول : أنا لست فلان ودولتي غير دول كذا وكذا , حتى يقع عليه وعلى نظامه ما توهمه مستحيلا.
– وهم الجاذبية وهو وهم يصيب الرجال والنساء على السواء؛ فيتوهم صاحبه أنه جذاب لأي طرف ويتصرف على هذا الأساس فيظن أن شخصًا يبادله المشاعر لمجرد أنه يبتسم له أو يعامله بلطف.
أو يعتقد أن زميلته تحبه لمجرد أنها تتحدث معه بأدب، والعكس.
– وهم نظرية المؤامرة، وأن العالم يتحكم فيه مجموعة قليلة، يرسمون سياسته وحاضره ومستقبله، ولا حيلة مع هؤلاء لأنهم يتحكمون في كل أسباب الفعل والقوة.
– وهم المهدي المنتظر الذي سيأتي في لحظة ما ليعيد العدل، ويملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت جورًا، ويصنع على مقتضى هذا الوهم ما لم يصنعه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ولكن أسوأ هذه الأوهام في الفترة الأخيرة ما ينشره الكثير قصدًا أو جهلًا أو ترديد ببغاء !!
وهم تفوق إسرائيل:
وذلك بالاعتقاد أن إسرائيل:
●لا تُقهر عسكريًّا.
●تسبق العرب علميًّا وتقنيًّا بمئات السنين.
●تسيطر على العالم إعلاميًّا واقتصاديًّا.
●تخترق كل الأنظمة، وتعلم كل شيء، ولا يُخطئ لها جهاز.
هذا الوهم يُشبه من حيث البنية النفسية “أسطورة التفوق الآري” أو “أسطورة الجيش الذي لا يُهزم”، لكنه في هذه الحالة معكوس: يتبناه الخصم نفسه عن عدوه، في إطار جلد الذات وتضخيم الآخر، فنرى من يسوق لهذا من العرب والمسلمين أكثر من الصهاينة، بل إننا نجد كثيرًا من كتاب الصهيونية يحذرون من الضعف والانقسام ومظاهر الأفول، وبعض قومنا يتوهمهم بقدرة الإله الذي لا حيلة معه سوى التسليم القدري الكوني، وهذا في ظني هو من جملة ( العلو الكبير) المذكور في القرآن؛ لأن النصر والهزيمة حالة نفسية قبل أن تكون حالة جسدية.
وهو كما قال صاحبي شاعر الدنيا:
ومن صحبَ الدنيا طويلًا تقلبتْ *** على عينه حتى يرى صدقَها كذبًا
فلله الأمر من قبل ومن بعد.
د. خالد نصر

موضوعات ذات صلة