همسات في مفهوم النجاح

  الأغلب إن لم يكن الكل يتحدث عن النجاح، تمنيًا أو ادعاءً أو حسدًا للغير.
ولا شك أن النجاح غاية لكثير من الطالبين، ومع ذلك حين نتكلم عن النجاح لا بد أن نشير إلى عدة مقدمات:
أولا: كلمة النجاح كلمة حيادية سياقية:
إذا قلنا: إن النجاح كلمة حيادية سياقية، فلعلنا لا نتجاوز الحقيقة.
ومعنى الحيادية هنا أنها لا تؤدي إلى السعادة بالضرورة، ولا تؤدي إلى الخير والصلاح دوما، بل قد يقع مع النجاح ضد الأشياء المذكورة. فمن نجح في صنع دواء لمرض عضال يمكن أن يكون سعيدًا، وبالقطع قد فعل خيرًا وصلاحًا، ولكن من نجح في صناعة أسلحة جرثومية أو كيماوية تقتل الأبرياء، فحتى وإن بدا سعيدًا إلا أنه لم يصنع خيرًا ولا صلاحًا، بل جاء بالشر والفساد. ومن هنا يأتي حياد الكلمة بمعنى أنه ليس كل ناجح سعيدًا أو راضيًا، وليس كل نجاح فائدة وخيرًا.
ومعنى السياقية: أن النجاح يختلف باختلاف المرجعيات.
فالنجاح في الثقافة الرأسمالية الحديثة مثلا : يُقاس غالبًا بالثروة أو الشهرة أو النفوذ.
على حين أنه في الأخلاق: مرتبط بالاستقامة والبر والصلاح، والتأثير النافع.
وفي علم النفس: النجاح هو تحقيق الذات، وحصول التوازن النفسي والاجتماعي.
فالسياق المادي أو الديني أو الاجتماعي قد يحدد طبيعة النجاح.
ثانيا: معيار قياس النجاح معيار تقديري:
وذلك يعني أن معيار النجاح ليس موضوعيًّا مطلقًا، فقد يقع الشيء الواحد بين طرفين متناقضين ويراه كل واحد منهما نجاحًا له. فمثلا قصة أصحاب الأخدود: قد يرى الملك نفسه ناجحًا حيث استطاع التخلص من أعدائه بمن فيهم الصبي الذي عجز عنه مرارًا، ومعه جماعة المؤمنين.
وقد يرى الصبي أنه هو الناجح حيث استطاع أن يثبت ضعف حيلة الملك ويكشفه أمام الجمع الغفير، ومن ثم مهد للتخلص من سلطان الجهالة التي فرضها عليهم الملك وحاشيته، فهو وإن خسر على المدى القصير فقد نجح على المدى البعيد.
كان هناك ملك قشتالي يسمى شانجه، بدأ سياسة في محاربة دولة الإسلام في الأندلس تعتمد على الإرهاق المستمر، ولكنه كان يهزم في كل وقعة يحارب فيها جيش قرطبة وتدمر قلاعه وحصونه ومدنه، وحين سئل عن فائدة الحرب مع الهزائم، قال: أنا أمهد الأرض لمن بعدي حيث لن يستطيع العرب الحفاظ على جيش قوي وعلى ما درجوا عليه من نمط الحياة المترف، فإذا ما أرهقناهم في واحد جاروا على الثاني، ولا يجورون على واحد إلا وقع النقص.
والحق أن هذا ما كان، ولم يستطع المسلمون الحفاظ على نجاح القوة ونجاح العمارة والترف، فقدموا الأخير على الأول فخسروا الاثنين معا في نهاية المطاف.
الشاهد أن ما عده البعض فشلًا من الملك القشتالي، كان نجاحًا على المدى البعيد.
ثالثا: النجاح ابن السياق:
وبيان ذلك أننا لو أخذنا أكثر من نعدهم نماذج ناجحة وجردناهم من سياقهم (البيئي، الزماني، المكاني) لتغيرت النتائج بشكل كبير. فمثلا لو أخذنا آينشتاين ونقلناه إلى زامبيا أو لاوس أو البيرو، هل كنا سنرى آينشتاين الأيقونة؟
وكم من آينشتاين عاش ومات ولم نسمع عنه شيئا؟
حين نقرأ كتب تراجم الكبار نجد أن هؤلاء لم ينزلوا من السماء بهذه الصورة كما يحب أن يصورهم البعض من الجهلة، ولكنهم وجدوا في سياق أعانهم على أن يظهروا بهذه الصورة وهم لها مستحقون، ومع ذلك فقد تخلف هذا السياق عمن ساعدهم للوصول لهذه الدرجة، مع أنه قد يكون أعلم منهم.
حين كنت في أول مرحلة الطلب، طلبت علم القراءات والتفسير ودرسته لأربع سنوات مع سيدنا الشريف أحمد نعمان بكري رضي الله عنه وقدس روحه ونور قبره، وقد كان رجلا كفيفًا بسيطًا يعلم بالرضى، ولكنه كان جبلًا في علوم القرآن والتفسير، حافظًا واعيًا، ومع ذلك لم يسمع عنه إلا القلة القليلة، وحين انتقلت إلى القاهرة التقيت بالأسماء الكبيرة التي ما فتئ الناس يطلبونهم ويتقربون إليهم بالنوافل، فلما اقتربت من بعضهم طمعًا في بعض علمه وجدته دون ما تعلمته أنا في حالي التي كنت عليها نسيًا منسيًّا، فتعجبت من هذا الحال الذي يرفع ويضع! الذي اختلف هنا هو السياق، فهذا سياقه مدينة طما في صعيد مصر حيث لا يراها أحد على الخريطة، والآخر في القاهرة العامرة حيث ملتقى الأبحر والأنهر والغرائب والرغائب.
كنت في نقاش مع أحد العقلاء وكنا نتحدث عن مقدار الإنجاز في مدة بقائنا في الولايات المتحدة الأمريكية قياسًا ببعض من لمعت أسماؤهم في فترة وجيزة، فقلت له: الحكم هنا ليس موضوعيًّا بقياس زيد المهاجر على عمرو المولد، وأعطيته فقط بعض التفاصيل:
– عمرو المولد يحمل جنسية الأرض بالولادة ما يمكنه من حقوق بالميلاد، على حين أن زيدًا المهاجر يصرف عشر سنوات من عمره في أفضل تقدير ليحصل على الجنسية وما يتبعها من حقوق.
– عمرو المولد يتحدث لغة القوم بالنشأة والتنشئة، على حين أن زيدًا المهاجر يتعلمها بالتعلم والدربة، وشتان بين الأمرين في الزمن والكفاءة
– عمرو المولد ابن المنظومة فتقدمه المنظومة، على حين أن زيدًا من خارج المنظومة، فهو واقف في أغلب الوقت على بابها لا يلج.
– عمرو المولد نفسه وجد زيدًا المهاجر يقوم على حوائجه، فبدأ من أعلى السلم، وما كان عليه إلا أن يصعد درجة واحدة، على حين أن زيدًا المهاجر لم يجد من يقوم على حوائجه، فبدأ من أسفل السلم، فمظنة اللحاق بركب عمرو ضعيفة.
– أن ما يتوقعه الجمهور من عمرو المولد ويعدونه نجاحًا، ليس هو نفسه الذي يعدونه نجاحًا من زيد المهاجر.
– فإذا جاء زيد بعلوم الارض حسبه القوم أمرا عاديا واعتياديا ، على حين لو أن عمرا حفظ بيتين من صوت صفير البلبل عده القوم أصمعي وقته وخليل زمانه.
ونعود مرة أخرى لمسألة السياق فأقول: إن السياق قد يختلف مع ذات الشخص، فيرفعه سياق ويضعه آخر:
فمثلا فنسنت فان جوخ عاش حياة بائسة وتعيسة وفي حياته لم يبع إلا لوحة واحدة، وكان يعدّ مجنونًا.
وبعد وفاته بيعت لوحاته بملايين الدولارات، وصار رمزًا للعبقرية المأساوية في الفن الحديث.
وابن تيمية مثلا في حياته سُجن مرات من السلطات السياسية، وأُعلنت ضده فتاوى، وتعرّض لهجوم من علماء عصره. وبعد وفاته انتشرت كتبه واعتُمدت آراؤه في حركات التجديد.وصار محور الحديث والنقاش بين من يحبه ومن لا يُكِنُّ له ذات الحب.
ولذا فالنجاح يعتمد في كثير منه على السياق الذي يسمح.
رابعًا: النجاح بين الظاهر والباطن:
في كثير من الأحيان لا نرى إلا الصورة الخارجية للنجاح، فنرى شخصًا ناجحًا في مجال، ماديًّا كان أو أدبيًّا فننبهر بهذا الظاهر، ولا ننظر في باطن الأشياء، إذ حقيقة النجاح الظاهري لا بد أن تنعكس على الباطن، وإلا تخلفت لذة النجاح وصار هو في ذاته عبئًا ثقيلًا.
وكمال النجاح أن يقع في الصورة وفي المضمون، في الظاهر والباطن.
وبالنظر لكثير ممن ينظر إليهم الناس باعتبارهم نماذج ناجحة في مجالات شتى نجد أن الكثير منهم عاش حقيقة بائسة لا تعكس هذا النجاح، وسأعطي هنا نماذج غير مسلمة، حتى لا يظن البعض أن سبب الفشل هو تضييقات الشريعة.
– إرنست همنغواي كاتب أميركي حاصل على نوبل:
ومع ذلك عاش حياة بؤس وصار مدمن كحول، دخل مصحة نفسية وأصيب بالاكتئاب، ثم انتحر بإطلاق النار على نفسه.
– مارلين مونرو أيقونة الجمال والسينما الأميركية:
عاشت حياة مضطربة، إجهاضات واكتئاب، وعلاقات فاشلة، يُرجَّح أنها انتحرت بجرعة مفرطة من المهدئات.
– روبن ويليامز:
حيث الصورة العامة أنه ممثل كوميدي محبوب، حاصل على الأوسكار، يُضحك الملايين، وكان لديه ثروة تقدر بالملايين.
والحقيقة أنه عانى من الاكتئاب، والخرف الجسدي، وانتحر عام ٢٠١٤.
ومن ينظر في حال الساسة والحكام المسلمين ويرى حياتهم من قريب يعلم أن ما يبدو أنه نجاح، هو شيء آخر لا يحسدون عليه.
وعليه: فالنجاح الحقيقي هو أن تعيش في رضا الله، وطمأنينة النفس، ونفع الآخرين ما استطعت، وألا تخون ما خُلقت أو قدرت له.
د. خالد نصر

موضوعات ذات صلة