إسرائيل الخاسر الأكبر من المواجهة مع إيران وحلفائها


مما لا شك فيه أن الضربة التي وجهتها مستعمرة إسرائيل لإيران اليوم قوية وذات نصر تكتيكي كبير، نفسي وواقعي، وسَيَتَكَشَّفُ عنه الكثير في المستقبل.
ولا شك أن المستعمرة الإسرائيلية اليوم تبدو أكثر قوة حيث استطاعت تحييد الكثير ممن يعتبرون أعداء.
لكن المستعمرة لن تخرج من هذه الحروب والاعتداءات كما كانت من قبل وذلك للآتي:
١- أن الحرب للمرة الأولى ومنذ حرب ١٩٤٨ تنتقل لداخل فلسطين المحتلة، وقد كانت إستراتيجية الاحتلال طول الوقت ومنذ حرب ١٩٥٦ أن تكون في أراضي أعدائها، حتى إن أقصى حرب واجهتها سنة ١٩٧٣ لم تطلق فيها طلقة واحدة داخل حدود فلسطين المحتلة.
أما الآن فقد تغير الوضع وصار مهاجمة الاحتلال من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أمرًا مقبولًا ومتوقعًا، وهو مع كلفته على أعداء إسرائيل فإنها خسرت به نقطة تفوق قوية.
ولمعرفة مدى تأثير ذلك لنأخذ ألمانيا النارية، فقد استطاعت ألمانيا أن تحقق انتصارات تكتيكية كبيرة جدًّا في أوروبا، حتى إنها احتلت معظم القارة، وما زالت متفوقة على أعدائها، ولم تهاجم مدن ألمانية بصورة تذكر.
ولكن تغير الأمر حين انتقلت الحرب لداخل ألمانيا في مارس ١٩٤٢ وبدأ بهجوم كولونيا الكبير، ومن بعده بدأ الشعب الألماني يعرف معنى الحرب الحقيقي.
والشاهد هنا أن انتقال المعركة لداخل الأرض المحتلة خسارة إستراتيجية كبيرة على المدى الطويل.
٢- أن التطاولات التي قامت بها إسرائيل ضد عدة دول عربية وإسلامية، مع كونها أمرًا يتفهمه الغرب المسيحي، إلا أنه يهدم منظومة عالمية بنتها أمريكا والغرب لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، وسيؤدي إلى حالة من التمرد المتتابع لدول الجنوب تباعًا، في الوقت الذي تضعف فيه المنظومة الغربية نفسها.
والكيان المحتل هو الجبهة الأمامية لهذه المنظومة الغربية، ومع كونها ذات أهمية تكتيكية إلا أنها أول ما يُضَحَّى به غالبًا.
ضحت الدولة الفارسية بدولة الحيرة، وضحى الروم بالغساسنة، وهذا شأن الدول الوظيفية، والمسألة فقط سترجع إلى أمرين: قوة المعسكر الداعم، وكلفة الدعم، والتاريخ يقول: إن القوة الغربية في أفول لأسباب داخلية وخارجية.
ولذا نجد دولا استعمارية قديمة بدأت في النفور من الصلف الصهيوني مثل فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وغيرها.
٣- أن الحروب الكبرى عادة ما يتبعها تغير اجتماعي: فقد رأينا كيف تحول المجتمع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجتمع أكثر ليبرالية (ليس بالضرورة برغبة أهل الحكم).
وهذه حروب كبرى ومتصلة بين إسرائيل وأعدائها وسيتبعها بعد غبار المعركة نتائج اجتماعية كبيرة حين يأتي وقت جرد الحساب، وفي الغالب سيكون ضد مشروع الفكرة الاستعمارية، حدث هذا مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكانت جميعها أقوى من المستعمرة الصهيونية بكثير، حتى إنه حدث عندنا في مصر بعد عدة حروب منها ١٩٦٧ و١٩٧٣، وحدث في العراق بعد حربين مدمرتين، ويحدث الآن في سوريا.
والمستعمرة الصهيونية ستبدأ مشاكلها الداخلية الكبيرة بعد انقشاع غبار المعركة بلا شك، وفي الغالب سيتكرر ما حدث بعد مملكة سليمان ومملكة الحشمونيين، وفي كلا الحالتين بدأ الانهيار داخليًّا وتم خارجيًّا.
٤- حين يتصارع الأقوياء ربما كانت قوة الضعيف في ضعفه، وهذا الحال الآن بين قوتين تسببتا في دمار للمنطقة مدة زمنية طويلة، فإسرائيل استنزفت دولا عربية مثل مصر وسوريا والأردن ولبنان، بالإضافة لفلسطين، وإيران استنزفت دولا عربية وإسلامية مثل العراق وسوريا واليمن وشرق الجزيرة العربية ولبنان وأفغانستان، والآن لما تعارضت المصالح يكسر الأقوياء بعضهم بعضا، ولن يخرج واحد من حلبة المصارعة، إلا والندوب والتعب يملآنه، على حين تتعافى القوى العربية والإسلامية المنهكة والتي تبدو مستسلمة (هي كذلك على المستوى السياسي والرسمي)، ولكنها تتعافى شعبيًّا، وتمتلئ حقدًا وخبرة في ذات الوقت.
وهذا ما وقع لبريطانيا وفرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، خرجوا جميعًا مستنزفين، وجاء الميراث من قوى كانت يومًا مستعمرات.
5- لو خرجت إسرائيل منتصرة في هذه الجولة ستخرج في صورة المنتصر الشرس، وهي صورة بائسة لمجتمع صغير، تؤدي إلى انتصار السيف وليس القيم (حتى وإن كانت قيمًا كاذبة كفكرة الديموقراطية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية)، فقد انتصرت اليابان قليلة العدد على دول جنوب آسيا وفيها الصين وكوريا وفيتنام وغيرها، لكنه انتصار يبقى ما بقي السيف في اليد، والواقع التاريخي يقول: إنه لا يمكن الاحتفاظ بالسيف في اليد طول الوقت؛ لأن اليد لها أدوار وحاجات أخرى، ومنها جمع حصاد السيف، وهنا يبدأ الانهيار، وقع هذا كثيرًا في التاريخ بما فيه التاريخ الإسلامي، حيث لم نستطع حمل السيف طَوال الوقت. وفي حالة المستعمرة الصهيونية قد ينتقل السيف من يدها إلى يد أعدائها بفعل الجغرافيا والديموجرافيا، وهو واقع لا محالة، ومع غياب القيم الأخلاقية لن تجد المستعمرة إلا الكراهية والحقد من القريب والبعيد على السواء.
لكل هذا لن تخرج إسرائيل من هذا الصراع كما كانت من قبل، بل ستخرج مثقلة بالندوب، والباقي سيقع على مقتضى قوانين علم اجتماع البشر، ونهايته معروفة مكرورة.
د. خالد نصر
بوسطن ١٣ يونيو ٢٠٢٥

موضوعات ذات صلة