غواية الحماقة
لكل داء دواء يُستطبُّ بهِ *** إلَّا الحماقةَ أعيتْ من يُداويها
والسياسة الأمريكية والإسرائيلية في العقدين الأخيرين تمثل هذا البيت تماما.
والحماقة هنا تتمثل في صور عدة، ولكن أكثرها حمقًا غواية الحرب والتدمير، والخروج من نظرية الردع المتوازن إلى نظرية المخاطرة.
والمخاطرة قد تأتي بنتائج تكتيكية جيدة على المدى القصير، ولكنها لا يمكن أن تعتمد سياسة ثابتة، لا سيما في المحيط المتغير.
ولبيان ذلك سأعطي أمثلة عملية لمن قام بعمليات مخاطرة وحصَّل نصرًا تكتيكيًّا، ولكنه انهزم على المدى البعيد وخسر كل ما قدَّم.
١- حرب يوليوس قيصر في بلاد الغال (فرنسا) تُعد من أبرز الحملات العسكرية في التاريخ الروماني، وقد غيّرت مسار الجمهورية الرومانية، ومهدت لصعود قيصر كقوة مطلقة.
وهي حرب استمرّت لثماني سنوات وانتهت بهزيمة بلاد الغال واستسلامها، وهو نصر تكتيكي مهم،
ولكنه في نفس الوقت كان سبب انقسام سياسي كبير في الإمبراطورية الرومانية وبداية سلسلة حروب داخلية وخارجية انتهت بمقتل قيصر نفسه وكبار القادة الرومان المشهورين من أمثال بومبي، وكاتو، وبروتس، ومارك أنطونيو، وغيرهم العشرات، ودمار مدن وبلاد كثيرة وتمرد في اليونان ومصر وشمال أفريقيا.
والغريب أن الإمبراطورية الرومانية في الوقت الذي وصلت فيه لأقصى اتساع ارتكبت هذه الحماقة التي أدت لسقوط الإمبراطورية وانقسامها.
والغريب أيضا أن صوت الحماقة تغلب بنشوة السلاح والعنف على صوت الحكمة؛ فقتلت الحرب كبار المفكرين والعلماء والعسكريين في الدولة نفسها، ما أدى لخسارتها على المدى الطويل. فهل نرى هنا تشابهًا بين الحالة الإسرأمريكية الصهيونية وبين ما حدث في روما قيصر؟!
٢- بعد انتصارات نابليون الكبيرة في القارة الأوروبية، خاض معركة أوسترليتز ١٨٠٥ والتي سحق فيها جيشي النمسا وروسيا، ومعركة يينا وأورشتات ١٨٠٦ ضد الألمان وغيرها.
قد ارتكب نابليون حماقته الكبرى وبنفس دوافع قيصر وغرور القوة وشهوة فرض السيطرة والإرادة
في سنة ١٨١٢ غزا نابليون روسيا بجيش ضخم يقترب من ٤٠٠ ألف، وارتكب حماقته دون الاستعداد للشتاء الروسي القاسي.
والنتيجة: موت مئات الآلاف من جنوده بسبب الجوع والبرد، وتراجع مذل أنهى أسطورته العسكرية، وخسارة فرنسا في خلال ثلاث سنوات كل ما كسبته في عشرين سنة، وانتهاء الإمبراطورية النابليونية.
٣- ومن ذلك خطأ هتلر الذي غير مسار الحرب العالمية ضد ألمانيا وأضاع انتصاراتها الكبيرة والسريعة وطريقة حربها التي كانت تسمى حرب البرق، وتحول ألمانيا من الهجوم والمكاسب للدفاع والخسائر، وبداية التفكك الداخلي.
والخطأ أنه هاجم الاتحاد السوفيتي عام 1941 رغم أنه لم يُنهِ الحرب مع بريطانيا.
والنتيجة هي استنزاف للجيش الألماني، وسقوط برلين عام 1945.
٤- وأما النموذج الإسلامي الأوضح في الحماقة وغواية القوة فهو نموذج الباشاوات الثلاثة في الدولة العثمانية، وهم: أنور باشا، وطلعت باشا، وجمال باشا.
ومن حماقاتهم العسكرية إدخال الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بقرار أنور باشا إلى جانب ألمانيا عام 1914 دون استعداد فعلي.
وذلك ظنًّا منه أن انتصار ألمانيا مضمون، وأنه سيستعيد هيبة الدولة.
والنتيجة: كارثة كبرى؛ تم تدمير البنية العسكرية، وخسارة معظم الأراضي العربية والبلقانية، بل واحتلال إستانبول من بريطانيا.
ومن نماذج المغامرات مثلا معركة ساركميش ١٩١٤ والتي قاد أنور باشا فيها الجيش العثماني في ظروف شتوية قاسية ضد روسيا في القوقاز دون استعداد لوجستي.
مما نتج عنه موت أكثر من 60 ألف جندي عثماني من البرد وحده، في أسوأ هزيمة شتوية في التاريخ العثماني.
وطبعًا بعد الهزائم فرَّ الباشاوات الثلاثة خارج البلاد سنة 1918.
وتم اغتيال طلعت في برلين وأنور في طاجيكستان، أما جمال فقُتل في جورجيا سنة 1922.
وكذلك نموذج صدام حسين في غزو الكويت 1990.
والحماقة: اجتياح دولة حليفة غنية وداعمة في الخليج.
والنتيجة: تحالف عالمي ضده، ودمار العراق، وانهيار الجيش وتدمير قوته الضاربة وأسلحته، ما أدى لسقوط النظام بسهولة بعد عدة سنوات.
والذي نراه الآن من فعل اليمين الصهيوني في الغرب واليمين الديني والقومي في مستعمرة إسرائيل هو العمى والغواية في صورتها التاريخية، ولعلنا لن ننتظر كثيرًا حتى نرى ما حدث لقيصر ونابليون وهتلر وأنور باشا وصدام وغيرهم من الحمقى الذين لبسوا ثوب القوة والبطش والادعاء.
د. خالد نصر
بوسطن ١٦ يونيو ٢٠٢٥