غزة ما بين شلتوت والطيب: دفاع الأزهر ودفع السلطة

  منذ نشأته، ظل الأزهر الشريف مؤسسة علمية وروحية تتجاوز حدود الدولة المصرية، وتحمل في خطابها همّ الأمة الإسلامية جمعاء، وفي قلب هذا الهم، ظلت القضية الفلسطينية، بما تمثله من مركزية وجهاد واسترداد حق مغتصب، حيث كانت هذه أبرز العناوين التي تصدّر بها الأزهر بياناته، وخطبه، ومواقفه.
لكن المثير في مسار الأزهر الحديث هو قدرته على الاحتفاظ بموقفه الأخلاقي والديني من غزة وفلسطين، رغم وقوعه مرارًا في وضعية الصدام غير المعلن مع النظام السياسي المصري، خاصة حين يتبنّى الأخير مواقف براغماتية أو متواطئة مع العدو الصهيوني.
في هذا السياق، يبرز اسمان يمثلان نموذجين مختلفين، لكنهما يتفقان في جوهر الانحياز إلى الحق: الشيخ محمود شلتوت (1893–1963) في زمن الناصرية، والشيخ أحمد الطيب (1946–) في الزمن الحالي.
الأول قاوم الترويض الناصري بصمت شامخ، والثاني واجه الحصار الإعلامي والضغوط الرسمية دون أن يتراجع عن نصرته لغزة.
في هذه الأسطر نسجل للتاريخ كيف دافع الأزهر عن غزة بكل ما يملك، رغم أن النظام السياسي كثيرًا ما كان في الجانب الآخر.
أولًا: الأزهر وفلسطين – ثوابت لا تتغير:
ارتبط الأزهر تاريخيًّا بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية دينية ووجودية، لا مجرد صراع جغرافي. ومنذ النكبة عام 1948، شارك علماء الأزهر في المؤتمرات، والفتاوى، والمقاومة الفكرية، بل وحتى الميدانية، في مواجهة المشروع الصهيوني.
ولم يكن دفاع الأزهر محصورًا في النصوص، بل كان يشمل:
– فتاوى صريحة بوجوب قتال الصهاينة واعتبار فلسطين وقفًا إسلاميًّا لا يجوز التنازل عنه.
– مؤتمرات وندوات أكاديمية منذ ثلاثينيات القرن العشرين لتفنيد المزاعم التوراتية حول الأرض.
– إرسال قوافل إغاثة في لحظات ضعف الدولة أو تواطئها.
وهكذا، ظل الأزهر صامدًا على ثوابته، حتى حين حاولت الدولة الحديثة تطويعه أو استغلاله سياسيًّا.
ثانيًا: الشيخ محمود شلتوت – صوت الحق في زمن الترويض:
تولى الشيخ محمود شلتوت مشيخة الأزهر سنة 1958، في ذروة تغوّل الدولة الناصرية ومحاولتها إحكام السيطرة على المؤسسات الدينية.
كان عبد الناصر قد بدأ مشروعه لتأميم الأزهر عبر “قانون 103 لسنة 1961″، الذي حوّله إلى جامعة تحت إشراف الدولة، وألغى استقلاله المالي والإداري، وهمّش دور العلماء التقليديين.
ومع ذلك، كان شلتوت واحدًا من القلائل الذين حافظوا على مواقف مبدئية تجاه القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ ففي خطبه وبياناته وكتاباته، أكّد مرارًا أن “الاعتراف بدولة صهيونية على أرض فلسطين هو خيانة لله وللإسلام”، وصرّح بأن القتال لتحرير الأرض المغتصبة واجب ديني لا تسقطه معاهدات ولا تواقيع سياسية.
زيارة غزة: حين رأى الإمام الظلم بأمّ عينه:
لم يكن موقف الشيخ محمود شلتوت من غزة نابعًا من تحليلات مكتبية أو فتاوى نظرية، بل كان ثمرة مشاهدة ميدانية مباشرة؛ فقد طلب من مدير مكتبه وسكرتيره الخاص الأستاذ أحمد نصار ترتيب زيارة إلى قطاع غزة، الذي كان آنذاك تحت الإدارة المصرية، وذلك ليتعرّف بنفسه على أحوال أهلها ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين.
سافر الإمام الأكبر، وتجوّل في القطاع بسيارة جيب وسيرًا على قدميه، والتقى الناس في بيوتهم ومخيماتهم، فرأى المشردين والجياع، والظلم المجسّد في حياة الفلسطينيين اليومية. وعند عودته، بدا مهمومًا على نحو لم يُر به من قبل. وفي اليوم التالي، زاره وفد من أساتذة الجامعات الأميركية في منزله (حيث كان معتكفا في بيته بسبب قانون الأزهر)، فاستقبلهم الشيخ بكلمات خرجت من أعماق قلبه، وهو يخاطبهم قائلًا:
“لقد زرت قطاع غزة، ورأيت الظلم مجسمًا، ورأيت المشردين في الفيافي والقفار، ورأيت الجياع والعرايا، ورأيت ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، إنها العنصرية الصهيونية التي أخرجتهم من ديارهم وجعلتهم كطائفة من الحيوانات… أنتم العلماء والأساتذة.. بلّغوا حكومتكم ما قلته لكم عما رأيت من جياع ومشردين سُلبوا أوطانهم وحُرموا حق الحياة الكريمة… قولوا لبلدكم.. بلد الحرية.. حرام أن يظل هؤلاء على هذا الحال، والعدو سائر في غيّه بلا رادع ولا وازع من ضمير، وإني أدعوكم لنصرة المظلوم من عسف الظالم في فلسطين السليبة الحبيبة”.
ثالثا: مواقف الشيخ أحمد الطيب من غزة: الثبات في زمن المساومات:
رغم اشتداد الضغوط الرسمية، وتزايد محاولات تطويع الخطاب الديني ليتماشى مع سياسة “السلام الدافئ”، فإن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ظل محافظًا على خطابه الأخلاقي الثابت تجاه ما يجري في قطاع غزة، مؤكدًا أن العدوان الصهيوني لا يُواجه بالحياد، بل بالموقف.
في كل عدوان إسرائيلي على القطاع، منذ تسلّمه المشيخة، أصدر الطيب بيانات متتالية تؤكد حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وتدين الجرائم بحق المدنيين، وتدعو الأمة الإسلامية والعالم الحر إلى نصرة غزة، ورفض الصمت المتواطئ. وقد جاء في إحدى كلماته:
“غزة ليست مجرد أرض تُقصف، بل ضمير يُقصف كل يوم، والسكوت عن ذلك خيانة للإنسانية قبل أن يكون خيانة للدين”.
تميّز خطاب الطيب باستخدام لغة إنسانية – شرعية مزدوجة، تُناشد الضمير العالمي، وتُذكّر المسلمين بواجباتهم العقدية، دون مجاملة للواقع السياسي المصري أو العربي. وفي مناسبات عدة، عبّر عن أسفه لصمت بعض القادة، قائلًا:
“من يسكت عن قتل الأطفال، هو شريك في الجريمة، ولو تذرّع بالسيادة أو المصالح”.
كما دعا إلى فتح المعابر الإنسانية، وأكّد أن: “القدس وغزة ليستا ملفّين دبلوماسيين، بل أمانة في أعناق المسلمين، حتى لو عجز الأزهر عن التأثير الميداني، فإنه لا يعجز عن البيان الذي يُبرئ الذمة، ويحفظ للحق كلمته”.
لكن الموقف لم يكن بيانًا فحسب؛ فقد وجّه الطيب بإطلاق حملات دعم وإغاثة عاجلة لسكان القطاع، عبر لجنة “بيت الزكاة والصدقات المصري”، التابعة للأزهر، والتي أعلنت تخصيص ملايين الجنيهات لمشاريع الإيواء والعلاج والغذاء في غزة. كما أشرف على إطلاق حملات تبرع جماهيري، دعا فيها الشعب المصري إلى دعم إخوانهم المحاصرين، معتبرًا ذلك “فرض وقت لا نافلة”.
وبالتعاون مع منظمات إغاثية موثوقة، حرص الأزهر على إيصال الدعم مباشرة إلى داخل القطاع، وقد شكّلت هذه المبادرات تحركًا نادرًا من مؤسسة دينية رسمية في مواجهة التخاذل السياسي.
رابعًا: بين شلتوت والطيب – ثبات الموقف، وتغير أدوات التضييق:
ما يثير التأمل أن الأزهر، رغم تغير النظام السياسي من ملكي إلى عسكري، ومن قومي إلى مهادن، ظل محافظًا –ولو جزئيًّا– على خطابه الأصيل تجاه فلسطين، لكن الفارق بين الأزهر في عهد شلتوت، والأزهر في عهد الطيب، يتمثل في أدوات التضييق والتحجيم.
في الحالتين، كان شيخ الأزهر يمثل الضمير القومي والديني حين غابت الدولة أو تواطأت، وقد أظهر قدرة على قول “لا” حين قال الجميع: “نعم”، أو صمتوا.
الخاتمة: حين يعجز السلطان، تتكلم العمامة:
قد لا يملك الأزهر دبابات، ولا جيشًا، ولا معابر، لكن ما يملكه هو ما لا تملكه الأنظمة: الضمير الأخلاقي، والسلطة المعنوية، والقدرة على مخاطبة الشعوب باسم الله لا باسم المصالح.
من شلتوت إلى الطيب، أثبت الأزهر أنه، رغم الترويض والتهميش، ما زال قادرًا على أن يكون صوتًا للمقهورين في غزة، وشاهدًا على خيانة الصامتين.
وإذا كانت الدولة قد اختارت الحياد أو التحالف مع القاتل الحقيقي، فإن الأزهر، في أسوأ الظروف، لم يشارك في تبرير الجريمة، بل قال: “هنا غزة… وهنا الحق، وهنا الدم، وهنا الواجب”.
د خالد نصر

موضوعات ذات صلة