العلماء العاملون -ابن جُزَيّ الكلبي- نموذج
وقد عُبّر عن ذلك في أقوال الصحابة والتابعين؛ فقال عبد الله بن مسعود: “تعلموا، تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا.
وقال الحسن: “العالم الذي وافق علمه عمله”.
وقال هلال بن العلاء: “طلب العلم شديد، وحفظه أشد من طلبه، والعمل به أشد من حفظه، والسلامة منه أشد من العمل به، ثم أنشد يقول:
يموت قوم ويُحْيِي العلم ذكرهم … والجهل يُلْحِقُ أمواتا بأموات
وقال سفيان الثوري: “إنما يُطلب العلم ليُعمل به، وقد كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يُرى أثره في خشوعه وزهده ولسانه وبصره ويده”.
ومن بين العلماء الذين جسّدوا هذا المبدأ عمليًّا، يبرز الإمام المفسّر الفقيه محمد بن أحمد بن جُزَيّ الكلبي الغرناطي (ت 741هـ)، الذي جمع بين العلم الغزير، والتأليف الرصين، والوظائف الشرعية من قضاء وخطابة، ثم ختم حياته بالشهادة في ساحة القتال ضد أعداء الإسلام.
وهو بهذا يمثّل أنموذجًا واضحًا للعالم العامل، الذي يوظِّف علمه في خدمة الأمة، ويجعل من حياته رسالة متكاملة تجمع بين القلم والسيف، والفكر والموقف.
أولًا: مفهوم العالم العامل في التراث الإسلامي:
ارتبطت نهضة الأمة الإسلامية عبر تاريخها بالعلماء العاملين الذين لم يقفوا عند حدود التنظير، بل تجاوزوا ذلك إلى التطبيق العملي، وقد ورد في الحديث الشريف: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» [رواه الترمذي]. فجعل السؤال عن العمل بالعلم من أركان المحاسبة يوم القيامة.
وقد ميّز علماء السلف بين العالم الحق والعالم غير العامل؛ فالأول هو من يصدّق قوله فعله، ويترجم علمه إلى سلوك عملي.
أما الثاني فيبقى أسير التناقض بين النظرية والتطبيق، وقد حذَّر منه العلماء بشدة؛ قال الإمام عليٍّ رضي الله عنه: “العلم لا يعدل العمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل”.
إذن: فالعالم العامل هو الذي يتصف بثلاث صفات:
العلم الراسخ: من حيث التضلّع في علوم الشريعة.
العمل بالعلم: التزامًا فرديًّا وسلوكًا اجتماعيًّا.
الموقف الشرعي: عبر النصح للأمة والجهاد بالكلمة والسيف.
ثانيًا: التعريف بابن جُزَيّ الكلبي:
نسبه ونشأته:
هو محمد بن أحمد بن محمد بن جُزَيّ الكلبي الغرناطي، وُلد في غرناطة بالأندلس في أسرة علمية عريقة، كان أبوه قاضيًا وعالمـًا بارزًا، مما أتاح له بيئة تربوية مهيأة للعلم والتأليف. نشأ في ظل الحياة الأندلسية المزدهرة بالعلوم والفنون، ولكنه عاش أيضًا مرحلة التهديد الصليبي المتصاعد، بعد سقوط الحواضر الأندلسية الكبرى كطليطلة وقرطبة وإشبيلية وبطليوس وسرقسطة وغيرها في يد الرومي، ما جعله يجمع بين همّ العلم وهمّ الدفاع عن الأمة.
شيوخه وتكوينه العلمي:
تلقى ابن جُزَيّ علومه على يد كبار علماء غرناطة وغيرهم، فبرع في الفقه المالكي، والتفسير، وأصول الفقه، واللغة العربية، ومن أشهر شيوخه: والده القاضي أبو القاسم، والإمام أبو الحسن الشهير بابن جابر، وقد تميز منذ صغره بالذكاء الحاد والقدرة على التأليف.
مؤلفاته:
ترك ابن جُزَيّ عدة مصنفات مهمة، أبرزها:
– التسهيل لعلوم التنزيل: تفسير جامع يجمع بين الرواية والدراية.
– القوانين الفقهية: متن فقهي مقارن بين المذاهب، لا يزال مرجعًا في الجامعات الإسلامية.
– تقريب الوصول إلى علم الأصول: متن في أصول الفقه سهل العبارة.
– الأنوار السنية في الألفاظ السنية: كتاب في التصوف والسلوك.
هذه المؤلفات تكشف عن موسوعية الرجل، وقدرته على تبسيط العلوم، وربط النظرية بالتطبيق.
مناصبه:
تولى ابن جُزَيّ الخطابة والقضاء في غرناطة، وكان مرجعًا للناس في الفتاوى والقضاء، يجمع بين المنبر والمحراب والكتاب.
ثالثًا: ابن جُزَيّ الكلبي نموذجًا للعالم العامل:
في العلم:
أظهر ابن جُزَيّ قدرة فائقة على الجمع بين الدقة العلمية وسهولة الأسلوب؛ ففي تفسيره “التسهيل” نجده يوازن بين النقل عن السلف والتحليل العقلي، ويقدّم للناس تفسيرًا ميسرًا للقرآن الكريم. وفي “القوانين الفقهية” جمع آراء المذاهب في صياغة موجزة تسهّل على الطالب المقارنة، فهو بهذا قدّم العلم الميسّر الذي يخدم العامة والطلبة على السواء.
ويقال: إنه ألّف كتاب التسهيل لعلوم التنزيل في سنوات اشتداد الخطر الصليبي على الأندلس، وكان يكثر فيه من الإشارات التربوية والعملية التي تبعث على الصبر والجهاد.
في العمل والوظائف الشرعية:
لم يكتفِ ابن جُزَيّ بالتأليف، بل تولى القضاء، وكان حريصًا على تحقيق العدالة بين الناس، وقد عُرف بصرامته في الحق، وحرصه على تبرئة ذمته أمام الله، كما كان خطيبًا مؤثرًا، يذكّر الناس بمسؤولياتهم الدينية والاجتماعية، ويعبّر عن قضايا الأمة في منبر الجمعة.
في الجهاد والموقف العملي:
ذروة تجلي “العالم العامل” عند ابن جُزَيّ كانت مشاركته في معركة طريف سنة 741هـ، التي وقعت بين المسلمين بقيادة أبي الحسن المريني من المغرب، وتحالف قشتالة وأوروبا؛ حين دعا السلطان أبو الحسن المريني علماء الأندلس للخروج مع الجيش إلى معركة طريف ضد النصارى، لم يتردد ابن جُزَيّ.
وقيل: إنه حمل السلاح بنفسه، رغم مكانته كقاضٍ وخطيب ومفسّر. كان يرى أن واجبه لا ينتهي على المنبر أو في ساحة القضاء، أو أن يجاهد بالسنن كما يدعي بعض من ألف النفاق وكان من دعاة الأرزاق، بل يكتمل في الميدان حيث تلتقي الأمة بعدوها.
وقد ذكر المؤرخون أنه فقد وهو يحرض الناس ويشحذ بصائرهم ويثبتهم يوم الكائنة واستشهد في تلك المعركة، وقيل: إن ولديه استشهدا معه أيضًا، فكان بيته كله بيت جهاد.
البعد الأخلاقي:
تميّز ابن جُزَيّ بصدق النية، والابتعاد عن التكسّب بالعلم أو التملق للسلطان. ورغم مناصبه، ظل قريبًا من الناس، يعلّم ويُبسط العلم ويُذكّرهم بالله، وهو ما جعل ذكره طيبًا بعد قرون.
تولى ابن جُزَيّ منصب القضاء في غرناطة، وكان معروفًا بصرامته في الحق، وعدم قبوله التدخلات السلطانية في أحكامه،حيث تذكر بعض المصادر أنه ردّ شفاعة بعض الوجهاء في قضية نزاع مالي، وقال عبارته: “القاضي لا يملك إلا ما أنزل الله”. ر
ُوي أنه حين عرض عليه أحد الأمراء مالًا جزيلًا مكافأة على خدمته في القضاء والخطابة، رفض أخذ شيء منه إلا بقدر راتبه المقرر.
وقال: “إن المال إنما يصلح للجند، أما العلماء فزادهم الورع”.
يقدم ابن جُزَيّ الكلبي درسًا بالغ الأهمية لأمتنا اليوم: أن العلم إن لم يقترن بالعمل ضاع أثره، وأن العالم إذا انفصل عن قضايا أمته تحول إلى مجرد موظف للسلطة أو صدى للماضي. وفي المقابل، فإن العالم العامل يعيش قضايا مجتمعه، ويترجم علمه إلى فعل، ويقف في وجه التحديات، ولو كلّفه ذلك حياته.
إن دراسة شخصية ابن جُزَيّ الكلبي تكشف عن معنى عميق لمفهوم “العالم العامل”؛ حيث لم يكن العلم عنده ترفًا معرفيًّا، بل رسالة متكاملة تُعاش بالقول والفعل، وقد جسّد ذلك في حياته العلمية والقضائية والخطابية، ثم ختمها بالشهادة في ميدان الجهاد. وهكذا مثّل نموذجًا خالدًا للعالم العامل، الذي تحتاجه الأمة في كل زمان.
فالعلماء العاملون هم الذين يترجمون العلم إلى حياة، ويجعلون من فتاواهم وكتبهم مواقف حيّة في وجه الباطل. وما أحوج أمتنا اليوم إلى استعادة هذا النموذج، في زمن تكاثر فيه “علماء السلطة” وقلّ فيه “العلماء العاملون”.
د. خالد نصر