الصبر الإستراتيجي: سلاح الأمة في معركة الوجود

✦ المقدمة
تواصل معي أحد الأحباب متسائلا: ماذا يحدث لهذه الأمة؟
ألا من نهاية لما نعيشه من مآسٍ يومية، بل على مدار الساعة؟
ما هذه المصائب التي تركت العالم وتجمعت في جسد هذه الأمة؟
ما هذا القهر الذي لا مثيل له في التاريخ، مذلة وهوان من الداخل والخارج على السواء؟
حكام وجيوش ليس لها شاغل إلا استعباد الناس ونهب مقدراتهم، وعدو خارجي يتحكم في كل شيء بمن فيهم جلادونا؟
عشرات الاسئلة المشابهة والتي تنتهي إلى لماذا؟ وإلى متى؟
ومع اعترافي مقدما أن إجابة هذه التساؤلات وغيرها ليس عندي لأن جزءا كبيرا منها متعلق بحكمة الله تعالى وهي سر من أسراره، لو استطعنا استكناهه في كل أمر، فستسقط أهم فكرة في قضية الإيمان، حيث لا يكون فرق بين الخالق والمخلوق، حين يستويان في التقدير ! أقول:
الأمم لا تعيش بالانتصارات العسكرية وحدها، ولا تنهض فقط بالسلاح والرصاص. بل إن التاريخ يعلّمنا أن الشعوب التي تعرف كيف تصبر هي التي تصنع النصر في النهاية.
إن الصبر ليس مجرد احتمال للشدائد، بل هو إدارة للزمن كجزء من المعركة. هو الإستراتيجية التي تجعل الأمة تُعيد بناء نفسها حين تُهزم، وتتحمل سنوات القهر حتى تنضج لحظة الانقضاض.
وفي واقعنا العربي والإسلامي، حيث يطول الصراع مع المشروع الصهيوني المدعوم من قوى كبرى، لا بد أن نفهم أن الصبر ليس هروبًا ولا استسلامًا، بل هو سلاح إستراتيجي يُبقي الأمة واقفة على قدميها حتى لو سقطت مرات.
✦ أولًا: الصبر في معناه العميق
كثيرًا ما يُفهم الصبر في ثقافتنا على أنه حالة استسلام وانتظار، أو مجرد احتمال للبلاء دون فعل، لكن الحقيقة أن الصبر ليس نوعًا واحدًا، بل هو درجات متفاوتة.
هناك صبر عرضي يشبه التحمّل القسري، حيث يُجبر الإنسان على احتمال ما لا يملك دفعه، فيبقى الألم عبئًا على صدره لكنه لا يولّد حركة، ولا يفتح طريقًا، هذا النوع قد يحفظ الجسد لحظة، لكنه لا يصنع أمة ولا يبني حضارة.
وفي المقابل هناك صبر فاعل، وهو اختيار واعٍ، تتحول فيه المحنة إلى وعي، والوقت إلى رصيد، والمعاناة إلى طاقة تغيير.
إنه الصبر الذي لا يكتفي بمواجهة الألم، بل يوظفه في صناعة التاريخ، وهذا هو الصبر الذي يتحدث عنه القرآن حين يربطه بالعمل والنصر والتمكين. ومن هنا ندرك أن الصبر ليس لحظة عابرة، بل رصيد متراكم، يختزن في وعي الأفراد والجماعات حتى يصير طاقة تاريخية قادرة على قلب الموازين.
وهذا ما يفسّره القرآن حين يجعل الصبر شرطًا للتمكين، فيعرضه لنا على هيئة ثالوث متكامل.
أول الأمر هو التواصي بالصبر، كما في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127]. إنها البداية، حيث يُستحضر أن الصبر ليس طاقة بشرية محضة، بل هو معية من الله وعون لا ينقطع.
ثم تأتي المرتبة الثانية، حين يتحول الصبر إلى فعل في ميدان المواجهة: ﴿وإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120]. هنا يصبح الصبر قوة عملية تقف أمام كيد الأعداء وتبطل أثره.
أما المرتبة الثالثة فهي الثمرة، حين يكتمل التراكم وتتهيأ الشروط: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ [السجدة: 24]. وهكذا يظهر جليًّا أن الصبر ليس شعارًا أخلاقيًّا، بل مفتاح القيادة والتمكين.
وفي السيرة النبوية نرى هذه المعاني ماثلة: فصبر مكة أنجب دولة المدينة، وصبر أحد رغم الهزيمة أنبت وعيًا جديدًا في الأمة، وصبر الحديبية على الشروط القاسية فتح أبواب مكة بعد عامين فقط. كلها شواهد تؤكد أن النصر ليس حدثًا عابرًا، وإنما حصيلة تراكم طويل.
إذن: الصبر الإستراتيجي ليس أن ننتظر القدر، بل أن نُدير الزمن ونحوّله من عدو إلى حليف.
✦ ثانيًا: درس التاريخ
من تأمل التاريخ يدرك أن الأمم لا تنهض بانفعال عابر، وإنما بتراكم صبر طويل. ففي مكة، لاقى المسلمون الأوائل من العذاب ما لا يطاق: بلال يُعذَّب في الرمضاء، وياسر وزوجته سمية يقتلان تحت السوط، والمؤمنون يحاصرون في الشعب حتى أكلوا أوراق الشجر. ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيالات ولا بحرب عصابات. لأنه كان يربي أصحابه على الصبر الإستراتيجي، ليصنع جيلًا لا ينفجر غضبًا ثم يخبو، وإنما يبقى صابرًا حتى لحظة التمكين. لم تكن ثلاثة عشر عامًا في مكة ضياعًا، بل كانت هي التي أنجبت رجال بدر والحديبية والفتح والقادسية واليرموك وأجنادين.
وعندما سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099 م، سالت الدماء حتى روت شوارعها، وظنّ الناس أن المدينة ضاعت إلى الأبد. لكن الله قدّر أن يستغرق التحرير ثلاثة أجيال متعاقبة، من عماد الدين زنكي إلى نور الدين محمود ثم إلى صلاح الدين الأيوبي. كان نصر حطين وفتح القدس تتويجًا لصبر طويل، راكمته أجيال كاملة حتى أثمر النصر.
والأمر نفسه رأيناه علينا في إسبانيا، حيث ظل الإسبان قرونًا تحت الحكم الإسلامي، ثم بدأت حركتهم من جيوب صغيرة في جبال الشمال بقيادة بلاي، حتى استمرت عملية الاسترداد ثمانية قرون كاملة، وانتهت بسقوط غرناطة. وهو مثال يذكّرنا أن الصبر ليس حكرًا على المؤمنين وحدهم، بل هو سُنّة تاريخية؛ من فهمها وانتفع بها انتصر، ولو كان عدوًّا.
وفي العصر الحديث تتكرر القصة. في الصين ارتكبت اليابان مجازر بشعة في الثلاثينيات، أشهرها مذبحة نانجينغ، لكن الشعب الصيني واصل المقاومة حتى خرج اليابانيون مهزومين. وفي الهند عاش الناس قرنين تحت الاستعمار البريطاني، فصبروا على الثورات والمجاعات والقمع، حتى جاء جيل غاندي ونهرو ليكمل الطريق ويخرج الاستعمار. وفي فيتنام قدّمت الأمة مثالًا أسطوريًّا، حين تحمّلت عشرين عامًا من القصف بالنابالم والقتل الجماعي، لكنها لم تفقد صبرها الفاعل، فحوّلت الغابات والأنفاق إلى حصون، وخرجت أميركا منكسرة أمام صمود الفيتناميين.
بعد الحرب العالمية الأولى خرجت ألمانيا منهكة، منهوبة، مقيدة بمعاهدة فرساي الثقيلة. بدت وكأنها انتهت من التاريخ. لكن الحقيقة أن الأمة الألمانية لم تُسحق، وإنما دخلت في مرحلة “فايمار”: ضعف، تضخم، بطالة، إذلال.
لكن الزمن كان يعمل في صالحها:
الحلفاء منهكون من الحرب.
الاقتصاد العالمي مضطرب.
الولايات المتحدة انسحبت إلى عزلتها.
حين جاء هتلر، لم يخترع قوة من العدم، بل استثمر في هذه اللحظة التاريخية: أوقف دفع التعويضات، أعاد بناء الجيش، وحوّل الصبر الطويل للأمة إلى هجوم مباغت.
صحيح أن مشروعه قاد لاحقًا إلى حرب مدمرة، لكن الدرس الأهم هو: لا هزيمة نهائية لأمة تعرف كيف تصبر وتبني قوتها بصبر إستراتيجي.
هذه النماذج جميعها تكشف أن الصبر الفاعل ليس مجرد احتمال فردي، بل هو مشروع تاريخي تتوارثه الأجيال، حتى يتحول إلى نصر كبير.
✦ ثالثًا: الصراع العربي الصهيوني – قراءة في ميزان القوى
اليوم نعيش صراعًا يُشبه في بعض جوانبه مرحلة فايمار:
الأمة العربية خرجت من هزائم كبرى (1948، 1967).
هناك تبعية للسلاح والاقتصاد الأجنبي.
هناك انقسام داخلي وتفكك سياسي.
لكن في المقابل:
العدو الصهيوني ليس قوة طبيعية، بل كيان مفروض بالقوة الخارجية.
هو يعتمد على الدعم الأميركي والأوروبي.
هو يعيش في محيط معادٍ ديموغرافيًّا وثقافيًّا.
وكلما طال الزمن، زادت أزماته الداخلية، وتكشفت هشاشته.
الدول العربية والإسلامية دول تاريخية، جذورها ضاربة في الأرض، عاشت قرونًا ونجت من الغزاة والمستعمرين، وستبقى ما بقيت الأمة.
أما إسرائيل فهي دولة وظيفية، لم تنشأ من عمق حضاري ولا من إرادة شعب طبيعي، بل وُجدت بقرار استعماري لتؤدي دورًا مؤقتًا. وشأن الدول الوظيفية أن تتلاشى مع الزمن، بخلاف الدول التاريخية التي تتجدد وتنهض من رقادها.
قد تبدو إسرائيل للوهلة الأولى كالكلية الصناعية اللامعة، نظيفة الشكل، محكمة الصنع، يُدخلها الأطباء إلى جسدٍ منهك. يظنّون أن الجسد سيقبلها، وأنها ستؤدي وظيفتها كما لو كانت جزءًا منه. لكن ما ينسونه أن للجسد أسراره، وأن له مناعةً ترفض كل دخيل، وتلفظ كل غريب مهما بدا كاملًا.
هكذا حال الأمة مع الكيان الصهيوني: زرعٌ غريب، لا يمتّ إلى نسيجها الحضاري والديني والتاريخي. قد يفرض نفسه بقوة الحديد والنار، وقد يظن أنه يؤدي وظيفة يحتاجها “الجسد المنهك”، لكنه في النهاية سيُرفض ويُلفظ. فالتاريخ –مثل الجسد– يملك جهاز مناعة لا يرحم الدخيل.
لذلك لن تبقى إسرائيل في قلب هذه الأمة، لأن جذورها ليست من تربتها، ولا دمها من دمها. وما كان غريبًا طارئًا، فإن سنّة الله أن يزول ويموت داخل الجسد الكبير.
فليست المعركة إذن بين قوة دائمة وضعف دائم، بل بين تاريخ ممتد وزرع طارئ، والتاريخ لا يرحم الطارئين.
✦ رابعا: فلسطين وغزة نموذج الصبر الإستراتيجي
غزة المحاصرة منذ أكثر من 20 سنة مثال حيّ على “الصبر الفاعل”:
لم تنهَر تحت الحصار.
طوّرت قدراتها العسكرية رغم المنع والرقابة.
جعلت من صمودها علامة على أن هذا الشعب لا يُهزم.
في كل مواجهة عسكرية، قد تخسر غزة بيوتًا وأرواحًا، لكنها تكسب شرعية الصمود، فيما يخسر العدو شرعية وجوده.
هذا الصبر ليس انتظارًا سلبيًّا، بل هو تراكم للقوة، وبناء وعي، وإبقاء للمعركة مفتوحة.
حتى لو عاد الجيش الصهيوني فاحتل غزة مرة أخرى، أو سوّاها بالأرض حجرًا حجرًا، وقتل القادة والمجاهدين، بل حتى العزل من النساء والأطفال والشيوخ، فإن التاريخ يقول كلمةً واحدة: لن يتمكّن ولن يبقى في هذه الأرض.
كم من مدينة إسلامية عريقة دُمّرت عن بكرة أبيها! حلب مثلًا، سُويت بالأرض ثلاث مرات على يد التتار، حتى ظنّ الناس أنها لن تقوم لها قائمة. لكنها عادت، وها هي حلب اليوم ما زالت مدينةً حية، بينما ذهب التتار إلى مزبلة التاريخ.
إنها سنّة الله في الأرض: الطارئ يزول، والأصل يبقى.
هذه الأرض تنبت رجالًا ونساءً كما تنبت القمح والزيتون، كلما سقط جيل قام جيل آخر، كلما أُحرقت شجرة نبتت مكانها غابة.
فلسطين أرض تاريخية، وإسرائيل دولة وظيفية، والوظائف عمرها قصير، أما التاريخ فسرمدي. فليُدرك العدو أن معركته ليست مع بشر فقط، بل مع الأرض والتاريخ والزمان، ولن يغلبها أبدًا.
التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي لا تستسلم تنتصر في النهاية، مهما طال الزمن.
العدو قد ينتصر في معركة، لكنه يخسر الحرب الكبرى إذا استمرت الأمة في صبرها.
فالمعركة ليست من يكسب اليوم أو غدًا، بل من يصمد قرنًا كاملًا.
✦ الخاتمة
يا أبناء هذه الأمة، تذكروا أن العدو لا يخاف من سلاحنا بقدر ما يخاف من إرادتنا. إن فقدنا الصبر فقدنا كل شيء، وإن صبرنا صبرًا فاعلًا فإن الزمن حليفنا.
الصبر الإستراتيجي ليس استسلامًا، بل هو أذكى أشكال المقاومة.
فلتكن فلسطين مدرستنا، ولتكن غزة دليلنا، ولنجعل من الزمن حليفًا لا عدوًّا.
د. خالد نصر

موضوعات ذات صلة