View Categories

(ف423) في كثير من المساجد في ولايتنا الآن أصبحت صلاة الجمعة حركات شفاه وأعضاء لا أكثر ولا أقل؛ فالخطيب معلوماته محدودة والمواضيع المطروحة باهتة وروتينية، ولا توفر الحد الأدنى من الغذاء الروحي أو الديني للمصلي، بل في بعض الجمع يخرج المرء وهو يشعر فعلًا أنها كانت مضيعة للوقت ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن روحانيته قد ضعفت بدلًا من أن تزيد، وهناك بعض الخطباء للأسف تذهب إليهم وأنت تعلم أنهم لن يحركوا في إيمانك أو أحاسيسك شيئًا، فهل واقع صلاة الجمعة على ما هي عليه الآن في هذه البلاد أو هذه الولاية يغير من أهمية حضورها وفرضها؟

أولا: الأصل في صلاة الجمعة أن تكون عيدًا أسبوعيًّا، والعيد هو ما يعود بعود الوقت، والأصل فيها أن تكون تذكرة وموعظة، وهي فرصة لربط القلوب والعقول بما نؤمن به.
وقد كان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يجعل من خطبة الجمعة موعظة للقلوب والعقول، وبابًا لإصلاح المجتمع، بالتعليق على ما يقع ويحتاج لبيان.
ونص آية الجمعة يدل بمنطوقه ودلالته على ذلك، فترك البيع (وهو هنا رمز لطلب المعاش في الدنيا) لا يكون إلا لأمر مهم، وليس لعمل شعائري فقط. ثانيا: من ينظر لدليل خطبه صلى الله عليه وسلم أو ما جاء في وصفها، يجد فيها نموذجًا عمليًّا لما تكون عليه خطب الجمعة، ومنها مثلا خطبته الشهيرة في عرفة، التي حدد فيها كثيرًا من القواعد العامة لصلاح الدين والدنيا.

ومنه ما جاء في وصف خطبه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ( كأنه منذر جيشًا) أي يدعو الناس للاستفاقة والحذر وكأن جيشًا سيهاجمهم.
ومنه ما جاء على لسان العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون…”
وهكذا كانت خطب خلفائه الراشدين والتابعين.
ثالثا: من البدع التي ظهرت واستطارت، طول الخطب على وقت الموعظة المطلوبة، مع ضعف الموضوع وغثاثة الطرح، وفقدان التواصل مع المستمعين، وذلك له أسباب منها:
١- ضعف المتحدثين والخطباء، لا سيما في بلاد الغرب، وتقديم فكرة من يتحدث بلسان القوم على مؤهلات الخطابة والعالمية.
٢- اعتماد موضوعات محددة سلفًا موضوعا وطرحًا، كما هو الحال في كثير من البلاد الإسلامية، التي تتحكم وزارة الأوقاف أو الدعوة في تحديد الموضوع والطرح.
٣- جرأة البعض على منبر رسول الله، وجعله بابًا للسمعة وطلب الظهور، وهذا صار كثيرًا، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن زمان ( كثير خطباؤه، قليل علماؤه).
٤- عدم اشتراط الحصول على دورات تأهيلية في مجال الخطابة والوعظ، من جهات متخصصة أو ممن له خبرة طويلة في هذا المجال.
٥- تعدد خطب الجمعة في البلدة الواحدة وفي المسجد الواحد في بلاد الغرب، مما يستهلك الخطباء المؤهلين ويستدعي من لا دراية له فقط ليملأ الفراغ ويسقط واجب الشعيرة بأي صورة.
٦- ظهور التيارات الدينية الإسلامية في منتصف القرن الماضي وسيطرتها على كثير من المساجد، مع تعلق أكثرها بقضايا مكرورة وليس لها كثير اتصال بحياة الناس الروحية والعملية. وقد استمعت لخطب من بعض المشايخ في قضايا من مسائل الاعتقاد وعلامات الساعة المتأخرة، تكاد تأخذ معظم العام!! ومنهم مثلا من أفرد للمسيح الدجال سلسلة من اثنتي عشرة خطبة متواصلة، مع أن كل الحاضرين لن يكونوا من حضور زمان الدجال! وأحد المشايخ المشاهير استهلك أكثر عمره في الحديث عن الإسلام الذي يبدأ بعد الموت، فسلسلة طويلة من الخطب في عذاب القبر ووصف النار والجنة والتخويف، وهي أمور لم يخصص لها القرآن ولا النبي صلى الله عليه وسلم إلا جزءا يسيرًا من تعاليم الدين، وإنما كان تركيزه صلى الله عليه وسلم على جانبي المعاملات وصحة المعتقد والسلوك.
٧- انتشار ظاهرة التقليد في الخطابة، فهذا يقلد في الصوت، وهذا يقلد في الصورة، وهذا يقلد في النكات، وهذا يقلد في الشدة، وهي ظاهرة تجعل المستمع منفصلا عن المتحدث، وذلك إما لقيام المقارنة مع الأصل، أو لقناعته بحصول الادعاء من المتحدث، والأصل أن يكون الكلام نابعًا من قلب وعقل المتحدث لا من لسانه وظاهره وهيئته.
٨- ضعف المحصول العلمي الشرعي بصفة عامة عند أكثر الخطباء، واستهانتهم بمسألة تحضير خطبة الجمعة والاستعداد لها، وهي التي قال عنها عبد الملك بن مروان وكان خطيبًا مفوهًا عندما سئل عن شيب رأسه المبكر فقال: “شيبتني المنابر”. أي الرهبة منها، والاستعداد لها، وقد كاد يصرف الخلافة عن ولده الوليد لعدم طلاقته في الخطابة.

والأصل أن يحترم المتحدث الحضور فيستعد بما يناسب المقال والمقام. والحل الذي نراه يتمثل في تجنب كل ما سبق، وكذلك قيام عمل جماعي لإعداد الخطباء والمتحدثين، والتزام مجالس إدارات المساجد باختيار الخطباء على حسب الكفاءة والقبول من جمهور المسلمين، وليس على سبيل المجاملة أو ملء الفراغ.

مع التركيز على التعاليم الروحية وعدم الاستسلام للحالة المادية، بصورتها الدنيوية أو الدينية المزعومة.
المفتي: د خالد نصر