View Categories

(ف440) هل التشبيه في قولنا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يدل على أفضلية سيدنا إبراهيم حيث وقع غاية في التشبيه، وهو ما يقتضي علوه عن المشبه؟

أولا: من حيث التقعيد:
المشبه به يفضل المشبه في صفة التشبيه، ولا يعني هذا أنه يفضله في كل شيء؛ فقولنا: زيد كالأسد، إنما يفضل الأسد زيدًا هنا في القوة والشجاعة فشبهنا زيدًا به، ولا يعني ذلك أنه يفضله في العقل أو الكرم أو الشكل أو غير ذلك.
وقول العرب مدحًا: فلان كالكلب. يقصدون به في الوفاء لصاحبه، وإلا كانت سبة وذمًّا وليست مدحًا.
قال الإمام الشاطبي:
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله *** وما يأتلي في نصحهم متبادلا
فنَصَحَ أن نأخذ خلق الوفاء والإحسان وهي صفة في الكلب حتى مع أهله الذين يبعدونه عن الدار ويحملون عليه أحيانا.
فلما صار الكلب مثلًا في الوفاء وقع التشبيه به، ولا يعني هذا أفضلية الكلب في كل شيء، فقد أثبت له القرآن صفة سلبية وهي اللهث بلا فائدة أو حاجة، فشبه به الذي ينسلخ عن واجب علمه، فقال: ﴿فَمَثَلُهُ ‌كَمَثَلِ ‌الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف: 176].
ولذا فالأفضلية إنما تُفهم في موضع الصفة المشتركة، لا في الذات.
ثانيا: هناك في البلاغة ما يسمى بـ(التشبيه المقلوب) أو ما يسميه ابن جني (غلبة الفروع على الأصول) وذلك أن يجعل المشبه به مشبهًا، والمشبه مشبهًا به.
ومنه قول البحتري:
في طلعة البدر شيء من محاسنها *** وللقضيب نصيب من تثنيها
فشبه البدر بها، والأصل أن تشبه هي بالبدر؛ فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر، والقد الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنًا لائقًا.
ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام هو أفضل الخلق وأكرمهم عند الله، وكانت الصلاة عليه أفضل الصلاة على مخلوق، فقد قلب التشبيه هنا رعاية لحق سيدنا إبراهيم واختصاصه عند هذه الأمة.
وأصل الكلام: صل على إبراهيم مثل صلاتك على محمد. ولكن لما كانت الصلاة على سيدنا محمد هي الغاية في الصلاة، والصلاة على سيدنا إبراهيم مشتركة مع غيره كنوح وعيسى وموسى، قلب التشبيه ليعطيه قدرًا قريبًا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بقلب التشبيه.
وذلك كقولنا: زيد كأبي حنيفة في العلم، فيرد آخر ويقول مبالغا: بل أبو حنيفة كزيد، وهو لا يقصد على الحقيقة إلا المبالغة في قدر زيد.
ثالثا: أن التشبيه وقع بالمجموع وليس بالفرد:
سيدنا محمد وآله بسيدنا إبراهيم وآله، ومن المعلوم أن آل سيدنا إبراهيم أنبياء، وآل سيدنا محمد وإن كانوا صحابة فليسوا بأنبياء، والأنبياء يفضلون غيرهم من الناس، فتكون الأجزاء الحاصلة لآل إبراهيم عليه السلام أعظم من الأجزاء الحاصلة لآل النبي صلى الله عليه وسلم، فيصح التشبيه باعتبار المجموع، حيث إن صلاته جل وعلا على الأنبياء تعلو صلاته على غيرهم، فيكون مجموع المعطى لإبراهيم وآله في هذا الباب، أفضل مما أعطي للنبي وآله فيه، مع أن المعطى للنبي فردًا فيه أفضل مما أعطي لسيدنا إبراهيم فردًا فيه.
رابعا: أن الصلاة دعاء، والدعاء يتعلق بمعدوم مستقبل، وذلك كسائر أنواع الطلب، نطلب ما ليس في أيدينا ترقبًا أن يقع في المستقبل.
وقولنا ( اللهم صل …) دعاء ويتعلق بعطية لم تعط للنبي بعد، وإلا كان تحصيل حاصل.
وتفضيل النبي على غيره لا يتعلق بالمستقبل، بل بما هو حاصل فعلا قبل الدعاء، ويأتي الدعاء بطلب الزيادة وليس بطلب الأصل.
ومثال ذلك أن تعطي زيدًا ألفًا له خاصة، ثم تعطي عَمْرًا مائة، فيقول قائل: أعط زيدًا مائة مثله، فتكون المائة زيادة على الألف، ويقع التشبيه في الزيادة لا في الأصل.
والدليل على ذلك أننا نصلي على النبي بالعموم فنقول: (اللهم صل على محمد وآل محمد) فهذا هو قدر التفضيل، فإذا جئنا إلى الصلاة طلبنا له زيادة بقدر الصلاة على إبراهيم عليه السلام، فيقع له الأصل والزيادة.
خامسا: أن الصلاة هنا تحتمل معنى الكرامات والعطيات، وعلى ذلك يكون الطلب ومقصود الدعاء هنا أن ينزل على سيدنا محمد من أنواع الكرامات مثل ما أنزل على سيدنا إبراهيم في النوع أو أعظم، كما أننا ندعوه أن يعطيه معجزة عيسى ومعجزة موسى وجمال يوسف وصبر أيوب وصدق إسماعيل، وغير ذلك؛ فيجتمع فيه ما لم يجتمع في واحد منهم، فتكون الصلاة هنا معنى خاصًّا، لا يمنع حصول غيره مما ليس عند سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهو ما كان في الدنيا، وما سيكون في الآخرة.
المفتي: د خالد نصر