من تحديات المسلمين في الغرب (المقال الثاني)

من تحديات المسلمين في الغرب
(المقال الثاني)
من المستفيد من كثرة التحريم في باب المعاملات المالية؟!
حدث مرة معي من زمن قديم أني كنت مدعوًّا لحضور مؤتمر إسلامي كبير يحضره كثير من أئمة المسلمين وعلمائهم في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فترة الراحة كنت أجلس على مائدة مع أربعة من الأئمة والمقدَّمين في الجاليات الإسلامية، نتناقش في مسألة تملك البيوت بديلًا عن الإيجار، ومدى أهمية هذا الأمر في جانبه الاقتصادي والاجتماعي.
ثلاثة من الحاضرين قالوا: إنهم بحمد الله اشتروا بيوتًا في مرحلة متقدمة، وأن هذه البيوت تضاعف ثمنها مع الوقت، وعند هذا القدر كان الأمر عاديًّا، لكن العجب بدأ حين قص كل واحد منهم قصة شراء بيته.
الثلاثة اشتروا بيوتهم دون قرض من أي بنك، والثلاثة دفعوا ثمن البيت جملة واحدة، وغريبة الغرائب أن الثلاثة قد قيض الله لكل واحد منهم أخًا (بمصطلحهم) حين علم أنه ليس لديهم القدرة على شراء البيت وأنهم يفتون بحرمة القرض البنكي قرر أن يقرضهم قرضًا حسنًا (بمصطلحهم أيضًا).
هؤلاء الثلاثة من ولايات مختلفة، وجاليات إسلامية مختلفة، ولكن كل واحد منهم وجد (أخًا) يعطي الواحد منهم مئات الآلاف من الدولارات ليشتري بيتًا ويسدد على ما لا يعلمه إلا الله من السنين، دون زيادة ربوية (على حد وصفهم).
هنا قلت في نفسي: ما هذا النصيب؟! هل أخدم أنا عند بني قريظة، فلا ينتصب أحد أفراد الجالية لإقراضي لشراء حتى ولو كوخ صغير، أو غرفة تحت السلم؟
ولكن خفف عني أن خامسنا وهو إمام كبير جاء نصيبه أيضًا عند بني قينقاع، فهو الآخر لم يعرض عليه أحد قرضًا حسنا ولا خبيثًا! ومن يومها وأنا ما زلت أبحث وأجتهد عن (الأخ) الذي يمكن أن يقرض مئات الآلاف ويستردها كما هي بعد عشرين سنة، فلا درك ولا دراك.
عندما بَدَأَتْ فتوى العلامة الدكتور القرضاوي (فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء) بشأن شراء البيوت بالقرض الربوي ومن البنوك العادية في بلاد الغرب، أقول: عندما بدأت في الانتشار هاجمها البعض هنا في أمريكا، وكتب البعض ردوده في مطبوعات ونشرها، وأذكر أن أحد الفتيان الصغار سنًّا وعلمًا وأدبًا قام خطيبًا في مسجد بنيويورك مؤنبًا الإمام وسائلا: ألم يقرأ هذا الشيخ … قوله تعالى: ﵟ‌وَأَحَلَّ ‌ٱللَّهُ ‌ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ ﵞ [البقرة: 275]. وأنا هنا في حل من الرد على مثل هذا الصغير بذكر مآثر الدكتور القرضاوي، وأنه قرأ وحفظ وفهم ودَرَس ودَرَّس هذه الآية قبل أن يولد هذا الفتى بعصور.
وفتوى الدكتور القرضاوي كانت مقتصرة على شراء البيوت، وقد وضع لها شروطًا للإنفاذ، منها ألا يكون هناك بديل معقول، وأن يكون البيت بغرض السكنى، وأن يكون البيت الأول.
قابلت أستاذنا القرضاوي بعد ذلك بسنين في مكتبه في حضور مجموعة من علماء وفقهاء أمريكا، وقلت لفضيلته نصًّا: إن فتواكم في شراء البيوت حلت جزءًا صغيرًا من التحديات الاقتصادية للمقيمين في الغرب، ولكنها لم تعرض لقضايا أخرى لها ذات الأهمية، مثل قروض التعليم، وإقامة مشاريع اقتصادية كعيادات الأطباء، أو مكاتب المحاماة، ومحلات التسوق والمطاعم، وقروض الاستثمار المهمة الأخرى والتي تعاني الجالية فيها تخلفًا كبيرًا بسبب كثرة التحريمات.
فسألني العلامة القرضاوي: وماذا ترى؟ فقلت له: لا بد أن نتوسع في استعمال أدوات الشريعة في التوفيق بين حاجات الناس العامة وبين النصوص، وأشرت لعدة أمور منها التوسع في استعمال رأي السادة الأحناف الذي يفرق بين المعاملة الربوية في دار الإسلام ودار الكفر، لا سيما أن لهذا الرأي أدلته من المنقول والمعقول، وقلت: وحتى إن كان الرأي مرجوحًا، فإن الحاجة العامة تجيز العمل بالمرجوح.
رد عليَّ الشيخ الجليل بقوله: لك أن تفتي الناس بمقتضاه إن كنت مقتنعًا به وقادرًا على الدفاع عنه.
عندما عدت وبدأت بعرض رأي السادة الأحناف وذكر أدلتهم استوقفني أحد المستمعين وقال لي نصًّا: لو أني أعلم بهذا الرأي منذ خمسة عشر عامًا لكنت اشتريت بيتًا بثمانين ألف دولار ثمنه الآن يتجاوز النصف مليون دولار. وقال: لقد عُرِضَ عليَّ عدة شقق ثمن الواحدة خمسة وعشرون ألف دولار، الواحدة الآن تزيد على مائتي ألف دولار.
وقبل أن أجيب على السؤال الوارد في العنوان أود أن أضع بين يدي القارئ الكريم عدة أمور:
1- إننا نعيش في مجتمع (المجتمع الغربي) لا تأخذ فيه شيئًَا ذا قيمة مجانًا أو بسعر يناسبك، فمثلا مصاريف التعليم الجامعي تتحدد على حسب قيمة الجامعة، وقيمة الفرع المدروس، فمن أراد أن يدرس في جامعة الولاية (مدعومة) مثلا لا يقل المتوسط عن خمسة عشر ألف دولار في السيمستر لو كان من المقيمين في الولاية، أما لو كان خارجها فيصل المتوسط إلى أربعين ألفًا.
وهذا لا يدخل فيه الجامعات المشهورة والمهمة كجامعة (هارفارد) أو (جورج تاون) أو (ييل) أو غيرها، كما أنه يختلف من دراسة الطب إلى المحاماة إلى غيرها.
وعليه: فمن لديه ثلاثة أولاد يريد تعليمهم في جامعات معقولة لا بد أن يتوافر له ما لا يقل عن أربعين ألف دولار لكل واحد في كل سنة، وهذه مبالغ كبيرة جدًّا لا يقدر عليها أكثر المهاجرين، ما سيدفعهم إلى الذهاب إلى معاهد علمية محدودة المصاريف ومحدودة الفرص في العمل والتقدم العلمي، وأغلبها تساوي المعاهد المهنية في الدول الإسلامية.
2- لو افترضنا أن طبيبًا استطاع أن يحصل على مساعدات تَفَوَّق وتخرج من جامعته طبيبًا، فبعد التخرج سيواجه مشكلة إنشاء عيادة مع ما يتطلبه ذلك من أدوات وإيجار مكان وتأسيس وتأمين وموظفين، وسيكون أمامه دهر طويل يعمل عند غيره حتى يستقل بعيادته، ولربما لن يبلغ ذلك أبدًا، ومثل ذلك يقال في المحامي والمحاسب وغيرهما.
3- كي يقوم أي شخص بمشروع تجاري، مطعم مثلا، لا بد له من مبالغ كبيرة تخص الإيجار والتأسيس، والحصول على الموافقات، ومن بعدُ التأمين على المكان وعلى العاملين، فمشروع محل بيتزا مثلا لا بد له من عدة مئات من الآلاف من الدولارات كي يبدأ على قدميه. ومثل ذلك يقال في محلات التبضع الصغيرة والبقالات.
أما من أراد أن يقيم مشروعا تجاريًّا كبيرًا كشركة بناء عقاري أو مصنع أو غير ذلك فلا بد له من ملايين حتى تقع له البداية.
4- في المجتمعات المادية مثل الغرب تتمثل قيمة الإنسان في كثير من الأحوال في قدرته المادية، وهذا ينعكس على الجالية الإسلامية بصفة عامة، فقيمتها في المجتمع تتحدد من جانبين: قدراتها الاقتصادية، وقدراتها التصويتية في الانتخابات بأنواعها. ومن يفقد تلك القدرات لا يهتم أحد بحقوقه؛ إذ لا قيمة اقتصادية أو اجتماعية له على حسب قيم وتقييم المجتمع الغربي.
5- المسلمون يحتاجون لبناء مساجد ومؤسسات حقوقية وبحثية وتعليمية خاصة بهم كالمدارس الإسلامية ومدارس التحفيظ، وبناء المسجد الواحد قد يكلف الملايين الكثيرة، وهذه الملايين لا يمكن أن تأتي من الخارج، بل هي تبرعات المساهمين من أهل الجالية. ولن يقع بناء كبير بالدرهم والدرهمين، بل لا بد من آلة دافعة تتمثل في كبار المتبرعين الذين يتبرعون بالآلاف الكثيرة، ويتبرعون بانتظام، ومن غير هذه الآلة الدافعة لن يتم بناء.
6- تعد الولايات المتحدة من أهم البلاد وأسهل البلاد التي يتم جمع التبرعات فيها بصفة عامة، ويشمل هذا المسلمين، وهناك مؤسسات كثيرة تعمل في مجال الإغاثة تعمل في الولايات المتحدة لصالح المحتاجين والمنكوبين من المسلمين في كل أنحاء العالم. وهذه التبرعات كي تقوم بالحاجة لا بد أن تصدر عن ظهر غنى، ولا خير في جالية فقيرة في مساعدة غيرها، إذ إنها مفتقرة إلى من يساعدها أولًا، واليد العليا خير من اليد السفلى، ومن يرصد حركة التبرعات يجد أن جزءًا كبيرًا منها يأتي من زكاة الأغنياء وأصحاب الأعمال.
7- تحتاج الجالية الإسلامية في الغرب إلى أدوات إعلامية قوية لتدافع عن حقوقها، وتظهر صورتها الحقيقية للمجتمع الغربي كصورة ليس فيها زيف أو تشويه، وهذه المؤسسات على تنوعها تحتاج لإمكانات مادية كبيرة تشبه ما للجاليات الأخرى المؤثرة في المجتمع، ولا يكون هذا إلا مع غنى الجالية وقدرتها المادية.
وهنا نعود للسؤال مرة أخرى: من المستفيد من كثرة التحريمات في باب المعاملات المادية؟
1- المستفيد الأول: هم كهنة المال وسدنة الاقتصاد، الذين يملكون مصادر التمويل، والعقارات، والشركات، وهؤلاء أفضل من يتعاملون معه المتشدد المتزمت الذي يخاصم المجتمع ويعيش عزلته الشعورية، بحيث يتحول دون أن يدري لعبدٍ عند هؤلاء السدنة، فهو في هذه الحياة على شرط الرحلة، وليس الاستقرار، فيتملك السادن كل شيء، أما المتزمت فليس له إلا أن يعيش في المساحة التي يتركها له السادن، فيؤجر له مسكنه، ويهيئ له عملا متواضعًا يترفع عنه السادن بدعوى أن هذا هو الحلال.
2- المستفيد الثاني: هؤلاء الذين يبيعون الوهم للمسلمين، فيبيعون لهم الحل وليس الحلال، وبمقابل هذا يثرون من وراء ذلك ثراء فاحشًا، إذ هم هنا لا يرضون حاجة الجسد، بل حاجة الروح المتعلقة بالحلال.
والغريب أن هؤلاء ليسوا دائما من المسلمين المتاجرين بالشعائر، بل دخل فيهم غير المسلمين ممن أدركوا عظم المنفعة، وما ضرر كلمة تقال تخلف خيرا كثيرًا؟ فصارت كلمة (حلال) بابًا واسعًا للثراء.
3- المستفيد الثالث: هم الساسة الذين يوجهون جملة القوانين في بلاد الغرب، فمع فقر الجالية الإسلامية الممنهج، ومع عزلتهم في جيتو التحفظ والتحوط، يتسع المجال للساسة في سن كل قبيح، ومحاربة كل قيمة، حتى صرنا كجادع أنفه بيده.
4- المستفيد الرابع: هم بعض رجال الدين أنفسهم، فهؤلاء يجدون قوتهم في التخويف، ويجدون سطوتهم في الحظر والمنع، إذ بالخوف والحظر يسيطرون على العامة وأكثر الخاصة، فيسمع لهم الناس ويقدمونهم في كل أمر، ولا عجب أن بعض هؤلاء أول من تسعر بهم النار.
والحق أني لم أسطر ما سطرت نصرة لرأي الإباحة على رأي المنع، فهذا أمر مكانه البحث الفقهي الخلافي، ولكن أذكر ذلك تنبيهًا للغافل وتذكيرًا للعاقل، حتى لا يقع لنا ما وقع لغيرنا ممن استعبدتهم منظومة القهر الاقتصادي، مستعملة بعض أدواتنا، وبعض ما كسبت أيدينا.
د/ خاتلد نصر

موضوعات ذات صلة