أمريكا على خطا روما البداية والنهاية
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ *** فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ *** مَن سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ *** وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
أولاً: التأسيس:
تُرجع الأسطورة الرومانية تأسيس المدينة إلى عام ٧٥٣ ق.م، على يد رومولوس، الذي يُقال إنه قتل أخاه ريموس ليؤسس المدينة التي حملت اسمه. ورغم الطابع الأسطوري لهذا القصة، إلا أن الدلائل الأثرية تشير إلى أن مستوطنات بدائية ظهرت في منطقة روما في هذا التوقيت تقريبًا، وعلى ذلك فالمدينة حديثة نسبيا وليست مثلا بقدم مدن مثل القدس أو دمشق، شأنها في ذلك شأن القسطنطينية التي تأسست سنة ٦٥٨ ق.م.
نشأ في روما نظام اجتماعي يقوم على الملكية، وحكم روما في هذه الفترة سبعة ملوك، آخرهم لوكيوس تاركوينيوس سوبربوس، الذي أدى طغيانُه إلى ثورة شعبية أطاحت بالحكم الملكي، لتُؤسس الجمهورية.
ثانيا: الجمهورية الرومانية:
وتعد هذه الفترة من أفضل فترات روما، حيث أنشئت الجمهورية على أساس تقاسم السلطة بين مجلس الشيوخ والقنصلين والمجالس الشعبية. توسعت روما كثيرًا من نطاق المدينة إلى نطاق الدولة الكبيرة؛ فشنّت حروبًا متتالية ضد الشعوب الإيطالية، ثم ضد قرطاج في الحروب البونية الثلاث، فسيطرت على شمال إفريقيا، إسبانيا، صقلية، ثم توسعت شرقًا إلى مقدونيا واليونان وآسيا الصغرى، وغاليا، وبلاد القبائل الجرمانية، والشرق الأوسط.
ثالثا: الحرب الأهلية:
في القرن الأول قبل الميلاد، شهدت الجمهورية اضطرابات داخلية نتيجة الفروق الطبقية، وظهور شخصيات طموحة مثل غايوس ماريوس، وسولا، وبومبي، وقيصر، وهو ما أدى إلى حروب أهلية مدمرة، وانتهت بمقتل يوليوس قيصر الذي حاول تركيز السلطة في يده، على يد مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ سنة ٤٤ ق.م.
رابعا: الإمبراطورية الرومانية:
بعد فترة من الحروب المهلكة بين الفرقاء، وكثير منهم كانوا حلفاء من قبل، استقرت الأمور في يد أكتافيوس، الذي أعلن سنة ٢٧ ق.م. قيام الإمبراطورية الرومانية، وأصبح أول إمبراطور فعلي لها.
شهدت بعده الإمبراطورية الرومانية عصرًا ذهبيًّا صارت فيه أقوى إمبراطورية في العالم، وصار البحر المتوسط بحيرة رومانية خالصة، وعاشت روما ازدهارًا اقتصاديًّا وثقافيًّا، وتوسعًا في البنية التحتية (الطرق، الجسور، القوانين).
وحكمها أباطرة عظام مثل أوغسطس، تراجان، هادريان، ماركوس أوريليوس.
ولكن سنة الله في الأرض، أن كمال هذه الدنيا بداية النقصان!
ولم يأت القرن الثالث الميلادي حتى بدأ الضعف.
خامسًا: مرحلة الضعف والانقسام:
مرت روما بأزمات اقتصادية وسياسية، وتعددت الانقلابات العسكرية.
وحدث تفكك داخلي أدى إلى استقلال بعض المقاطعات عن الحكم المركزي.
في عام ٢٨٤ م تولى الإمبراطور ديوكلتيانوس وحاول إصلاح النظام، لكنه اضطر إلى تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين: شرقي وغربي، مما زاد في الانقسام والضعف. وفي عام ٣١٣ م أصدر الإمبراطور قسطنطين مرسوم ميلانو الذي أباح المسيحية. وبعد ذلك عام ٣٨٠ م أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي.
وبدل أن يوحد التحول للمسيحية الدولة، أضعف العقيدة التقليدية الرومانية، وأدى إلى تغييرات عميقة في الثقافة والسياسة، وتبعه بعد ذلك انشقاقات دينية داخل المسيحية نفسها، أدت إلى عداوات داخلية وتفكك.
وأخيرا: سقوط روما:
بدأت روما تفقد قوتها وضعف الجيش الروماني؛ وذلك بسبب الضعف والتفكك والعوامل السياسية والاقتصادية واعتماده على مرتزقة أجانب. وفقد الجيش الروماني أهم ما كان يميزه وهو الانضباط العسكري.
استغل ذلك المحيط الخارجي ومنها بلاد كانت مستعمرات رومانية من قبل، فزادت هجمات القبائل الجرمانية (القوط، الوندال، الهون). وفي عام ٤١٠م نهب القوط مدينة روما. وفي عام ٤٥٥م كرر الوندال الفعل نفسه.
وأخيرًا: في عام ٤٧٦م قام الجنرال الجرماني أودواكر بخلع الإمبراطور الصوري رومولوس أوغستولوس.
وانتهت بذلك إمبراطورية روما، التي حكمت الدنيا يومًا.
وبمراجعة أحداث التاريخ لمدينة روما نستطيع أن نجمل أسباب الانهيار والسقوط في الآتي:
١- الصراعات بين الجنرالات والسياسيين أدت إلى حروب أهلية متكررة.
وكثير من الأباطرة صعدوا إلى الحكم عبر الانقلابات العسكرية، ثم اغتيلوا.
٢- ضعف مجلس الشيوخ وتحوّله إلى هيئة شكلية، مقابل سلطة الجيش.
٣- تقسيم الإمبراطورية إلى شرقية وغربية زاد من التشتت.
٤- الإنفاق الضخم على الجيش والإدارة أثقل كاهل الدولة، مع تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي.
٥- التضخم الذي أدى إلى زيادة الضرائب على الفلاحين والطبقة الوسطى، مما أدى إلى انهيار الإنتاج المحلي، وهروب الفلاحين من أراضيهم، وتمرد العبيد أكثر من مرة.
٦- الرشوة والمحسوبية سادت في الجهاز الإداري. وكثير من المسؤولين كانوا يهتمون بمصالحهم الشخصية على حساب الدولة.
مع ضعف البيروقراطية، وعدم قدرتها على إدارة الإمبراطورية الشاسعة، لا سيما مع اختلاف البقاع والأجناس واللغات والثقافات والديانات.
٧- فقدان الانضباط التقليدي والقيم الجمهورية القديمة (الشرف، التضحية، الفضيلة).لا سيما بعد مقتل الكثير من المنظرين والفلاسفة الكبار مثل شيشرون وكاتو الأصغر وبروتس، وغيرهم الكثير.
وانتشار الترف واللهو بين الطبقات العليا، مع انقسام طبقي حاد بين الأغنياء المتنعمين والجماهير الفقيرة المعدمة.
٨- الانقسام بين الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) والشرقية (الأرثوذكسية) بدأ يطفو على السطح.
والصراعات العقائدية مثل النزاع حول علاقة الأقانيم الثلاثة بعضها ببعض، والتي زعزعت الوحدة الدينية والسياسية.
أما إذا جئنا للمقارنة بين روما وأمريكا، سنجد الكثير من أوجه التشابه في البدايات والشعارات والتاريخ:
من جهة التاريخ: –
نجد أن أمريكا بدأت كمستعمرات جديدة وتوسعت في محيطها مع الوقت، حتى اتسعت وسيطرت على معظم القارة الشمالية، وهو يشبه نشأة روما ما بعد القرن الخامس قبل الميلاد. –
دخلت في مرحلة حرب أهلية وخرجت منها كقوة عالمية وهو ما حدث مع روما. –
اشتركت في الحرب العالمية الأولى، وكان لحضورها عامل الحسم في نهاية الحرب وهو ما حدث مع روما بحسم حروب أهلية في عدة بلاد لصالحها كما حدث في فلسطين في الصراع اليهودي اليهودي وكما حدث في مصر في صراع البطالمة.
التحول للإمبراطورية: ●
كما كانت روما القوة المهيمنة في العالم القديم بعد هزيمة قرطاج ومقدونيا، فإن الولايات المتحدة برزت بعد الحرب الباردة كـالقوة العالمية المنفردة. ●
روما نشرت فيالقها في أنحاء الإمبراطورية.
وأمريكا تمتلك قواعد عسكرية في أكثر من ٧٠ دولة، وتُعد ميزانيتها العسكرية الأضخم عالميًّا. ●
روما اشتهرت بـشبكة طرقها الداخلية والخارجية وقوانينها ومؤسساتها الجمهورية.
وأمريكا قائمة على شبكة طرق كبيرة داخليًّا وخارجيًّا وعلى دستور، وفصل السلطات، وقانون مدني متطور مستمد جزئيًّا من القانون الروماني. ●
الرومان آمنوا بأنهم “شعب مختار لتنوير العالم”. وكثير من السياسيين الأمريكيين يتحدثون عن “الاستثناء الأمريكي” وأن أمريكا “نموذج حضاري” للعالم.
الإمبراطورية الأمريكية على خطا روما في الضعف:
من ينظر لحال الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ويعرف التاريخ جيدًا، يرى اليوم في الأمس، ونراها تكرر الأخطاء نفسها التي أدت لضعف روما وتفككها، وسأذكر أوجه الشبه باختصار شديد: –
فحيث كان فساد سياسي، وصراع داخلي في روما، نجد استقطابًا سياسيًّا حادًّا، وأزمة ثقة في المؤسسات الأمريكية لا يخلو من فساد. –
وجدنا في روما عبئًا اقتصاديًّا من الجيش الضخم المنوط به حماية المستعمرات، ونجد في أمريكا إنفاقًَا عسكريًّا ضخمًا، مع عجز متزايد. –
انحلال القيم الجمهورية في روما وانتشار الترف، نجد نظيرًا له بل أسوأ منه في أمريكا في صور استهلاك، وترف وفردانية مفرطة، وحرية مفسدة، وتحلل من معظم القيم الأخلاقية والاجتماعية، واستفحال الميكاڤلية. –
الصراع السكاني بسبب تعالي جنس على بقية الأجناس، فالروماني كان له حقوق خاصة قياسًا بغيره، وهذا ما يحاول البعض الآن التبشير به في الولايات المتحدة، حيث يعتبر البعض أن هذه الأرض والخيرات لهم والباقي غرباء. –
الصراع بين المؤسسات المستقرة كمجلس الشيوخ الروماني وحكام أرادوا الانفراد بالسلطة مثل سولا، ويوليوس قيصر، وهو ما نرى شبهًا له في السياسة الأمريكية الحديثة؛ ومنه صراع الكونجرس مع نيكسون بسبب فضيحة التجسس وترجيت، وتجاهل ريجان للكونجرس فيما سمي بفضيحة إيران الكونترا، وصراع ترامب مع الكونجرس ومحاولة عزله.
وبالخلاصة: أمريكا الآن تشبه روما في القرن الثالث الميلادي: لم تنهَر فجأة… بل تآكلت بالتدريج من الداخل رغم أنها لا تزال “الأقوى”.
وأخيرًا: أود أن أقول:
يُعدّ التاريخ ذاكرة الأمم، والمصدر الأهم لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. ولا يُعدّ استقراء التاريخ مجرد استعادة لأحداث ماضية، بل هو أداة تحليلية تساعدنا في تبيّن السنن الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تحكم حركة المجتمعات والدول، وهو منطلق حاسم لبناء تصورات مستقبلية واقعية ومستنيرة.
ومن لم يجعل اللهُ له نورًا فما له من نور.
د. خالد نصر
