الأزهر بين عبد الناصر وهنري الثامن – ترويض المؤسسة الدينية
كلتا الحالتين تعبّران عن محاولة السلطة السياسية ترويض مؤسسة دينية عريقة، كانت تملك استقلالًا معنويًّا وماديًّا يجعلها أحيانًا تقف موقف الندّ، لا التابع. هذا المقال يسعى إلى مقارنة هاتين التجربتين من زاوية الأدوات، والدوافع، والنتائج، لفهم كيف تتعامل الدولة الحديثة أو السلطة المطلقة مع الدين كمجال مؤسسي مستقل.
أولًا: السياق السياسي والديني لكل حالة:
عبد الناصر وبناء الدولة الحديثة:
بعد ثورة يوليو 1952، شرع النظام الجديد بقيادة جمال عبد الناصر في إعادة بناء الدولة المصرية على أسس قومية واشتراكية، مع طموح لقيادة العالم العربي. في هذا السياق كان الأزهر مؤسسة ذات جذور تراثية وتأثير شعبي عميق، لكنه في الوقت نفسه لم يكن خاضعًا للسلطة السياسية، بل يتمتع بتاريخ من الاستقلال المالي (عبر الأوقاف) والعلمي. وقد رأى عبد الناصر أن تحديث الدولة يستدعي إخضاع المؤسسات الدينية للرقابة والتنظيم، بما ينسجم مع الخطاب الثوري للدولة الجديدة.
هنري الثامن والصراع مع روما:
في إنجلترا القرن السادس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية تخضع للبابا في روما، وتمتلك ثروة هائلة ونفوذًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. نشأ الخلاف بين الملك هنري الثامن والكنيسة حين رفض البابا منحه الإذن بتطليق زوجته كاثرين من أراغون. غير أن الخلاف لم يبقَ شخصيًّا، بل تحوّل إلى مشروع سياسي تمخض عنه الانفصال الرسمي لكنيسة إنجلترا عن روما، وتحوّل الملك إلى “رئيس أعلى” للكنيسة الوطنية.
ثانيًا: الأدوات القانونية والإدارية للترويض:
قانون تطوير الأزهر:
في عام 1961، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر القانون رقم 103، المعروف بـ”قانون تطوير الأزهر”، والذي مثّل تحولًا جذريًّا في طبيعة المؤسسة الأزهرية من حيث بنيتها التعليمية ومرجعيتها الدينية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية. فقد تم بموجب هذا القانون تحويل الأزهر إلى جامعة حديثة تضم إلى جانب الكليات الشرعية كليات مدنية مثل الطب والهندسة والتجارة، في إطار ما سُمّي بـ”التحديث المؤسسي”. كما أُخضع تعيين شيخ الأزهر لقرار رئيس الجمهورية، بعد أن كان يُنتخب أو يُختار من قِبل العلماء، مما أنهى الاستقلال التقليدي للمشيخة. وأنشئ “مجمع البحوث الإسلامية” ليكون جهازًا رسميًّا يتولى الإفتاء والبحث بدلًا من الهيئات العلمية الأزهرية القديمة. كما تم تأميم الأوقاف الأهلية التي كانت تموّل الأزهر وضمّها إلى وزارة الأوقاف، الأمر الذي أدّى إلى فقدان المؤسسة استقلالها المالي والإداري.
قوانين هنري الثامن وإعادة تشكيل الكنيسة:
في عام 1534، أصدر البرلمان الإنجليزي “قانون السيادة الملكية”، الذي أعلن فيه الملك هنري الثامن نفسه رئيسًا أعلى للكنيسة الإنجليزية، منهِيًا بذلك التبعية الدينية والتشريعية للبابا في روما. وقد تبع هذا القانون إجراءات عملية واسعة، تمثلت في مصادرة أراضي الكنيسة وأديرتها وتحويلها إلى ممتلكات تابعة للتاج، وطرد الأساقفة الموالين للبابوية وتنصيب رجال دين يدينون بالولاء للملك، كما تم حظر أي تواصل مع البابا، واعتُبر الولاء له خيانة عظمى يُعاقب عليها القانون الملكي.
ثالثًا: الدوافع العميقة بين الإصلاح والسيطرة:
عبد الناصر: هندسة الدولة من الأعلى:
كانت دوافع عبد الناصر معقدة: فمن جهة، أراد تحديث الأزهر إداريًّا وعلميًّا، ودمجه في مشروع الدولة الحديثة. ومن جهة أخرى، كان يخشى من المؤسسات الدينية التي قد تنافس الدولة في التأثير على الجماهير، خصوصًا بعد صدامه العنيف مع جماعة الإخوان المسلمين عام 1954. ومن ثم، مثّلت “إعادة هيكلة الأزهر” خطوة في سبيل ضبط الفتوى، وتوجيه الخطاب الديني بما يخدم رؤية الدولة.
هنري الثامن: السلطة الدينية والشرعية الشخصية:
بدأ الخلاف بين هنري الثامن والكنيسة بدافع شخصي –الطلاق– لكنه سرعان ما توسّع إلى نزاع سياسي حول السيادة. رأى هنري أن البابا يهدد سلطته، وأن الكنيسة تُمثل دولة داخل الدولة. ولذلك، لم يكن مشروعه مجرد “إصلاح كنسي”، بل إعادة تعريف العلاقة بين الدين والسيادة، حيث لا مكان لسلطة عليا فوق الملك.
رابعًا: التربص برأس المؤسسة الدينية: من شلتوت إلى وولسي ومور:
تتجلى ملامح “ترويض المؤسسة الدينية” في لحظات التوتر الشخصي والسياسي بين الحاكم وزعيم المؤسسة الدينية، حيث لا يكفي الإصلاح المؤسسي وحده لضمان السيطرة، بل لابد من إخضاع القيادات ذات الشرعية الرمزية أو الكاريزما العلمية، وقد تجلت هذه الديناميكية بوضوح في حالتي مصر الناصرية وإنجلترا التودورية.
الإمام الأكبر محمود شلتوت: الإقصاء الصامت:
مثّل الإمام محمود شلتوت شخصية علمية إصلاحية ذات حضور مؤثر في العالم الإسلامي، وجاءت مشيخته في لحظة مفصلية مع صعود المشروع الناصري، وقد شعر عبد الناصر، الذي كان حريصًا على احتكار الرمزية الوطنية، أن حضور شيخ الأزهر ينافسه زعامةً وهيبة، خاصة بعد حادثة شهيرة أثناء زيارته إلى العاصمة الإندونيسية جاكرتا عام 1961، حيث حظي شلتوت باستقبال شعبي ورسمي كبير فاق ما ناله الرئيس نفسه، ويُروى أن عبد الناصر أمر بإعادة شلتوت إلى القاهرة فورًا، في رسالة سياسية غير مباشرة.
في أعقاب ذلك، تسارعت خطوات تقليص سلطة المشيخة، وتُوّجت بإصدار قانون 103 لسنة 1961 الذي دمج الأزهر إداريًّا وماليًّا في الدولة. حاول الشيخ شلتوت أن يقاوم هذه التغييرات بصمت العالم، لكنه حين وجد أن مهمته أُفرغت من مضمونها، قدّم استقالته في مذكرة جريئة إلى الرئيس ورئيس الوزراء، قال فيها:
“أجد نفسي أمام واحد من أمرين: إما أن أسكت على تضييع أمانة الأزهر، وهو ما لا أقبله على ديني وكرامتي، وإما أن أتقدّم آسفًا… بطلب إعفائي من حمل هذه الأمانة…”
وبعد استقالته في أغسطس 1963، اعتزل الشيخ الحياة العامة، وتوفي بعد أشهر، وقد صار رمزًا لفكرة الاستقلال العلمي في وجه التسييس.
الكاردينال وولسي: سقوط الحظوة:
في إنجلترا، كان الكاردينال توماس وولسي الذراع الأقوى للملك هنري الثامن في إدارة الشأنين الديني والسياسي، ووسيطه لدى البابا، لكن حين فشل في إقناع روما بإبطال زواج الملك، وجد نفسه في مواجهة غضب العرش. أُقيل من مناصبه، وصودرت أملاكه، واتُّهم بالخيانة، وكان في طريقه إلى المحاكمة لولا أنه توفي قبل ذلك.
يمثل وولسي نموذجًا لسقوط رجل الدين الذي تعارضت ولاءاته بين سلطة روحية عليا (البابا) وسلطة دنيوية مطلقة (الملك).
توماس مور: من الخلاف الصامت إلى الإعدام العلني:
أخطر من ذلك، ما وقع لخليفة وولسي، المفكر والحقوقي المعروف توماس مور، الذي تولّى منصب مستشار الملك بعد ولسي على أساس أنه بيروقراطي تقليدي، لكنه أيضا رفض الاعتراف بشرعية قانون السيادة الملكية، كما رفض الاعتراف بزواج الملك من آن بولين. صمته الرافض كان كافيًا لمحاكمته بتهمة الخيانة. وفي عام 1535 أُعدم بقطع الرأس، وقال أثناء إعدامه:
“أنا خادم صالح للملك، لكني أولًا خادم لله”.
يمثل مور الذروة الدرامية لتوتر الدين والسيادة، إذ لم يعد الصمت مقبولًا، بل صار الاختلاف جريمة تستوجب القتل.
في كل الحالات، لم يُغفر لرجل الدين امتلاكه ضميرًا مستقلًا أو مرجعية تتجاوز حدود السلطة الزمنية.
نمط مكرّر: تصفية الرؤوس لا المؤسسات:
تشير هذه الوقائع إلى أن مشروع ترويض المؤسسة الدينية لا يستهدف هياكلها التنظيمية فحسب، بل يمتد إلى رموزها الفكرية والروحية، حيث يبدأ الحاكم غالبًا بإزاحة الرأس القيادي للمؤسسة قبل إعادة تشكيل بنيتها؛ فقد تم تهميش الشيخ محمود شلتوت بعد أن مثل صوتًا مستقلًّا داخل الأزهر، في حين تعرض الكاردينال وولسي للإذلال السياسي بعد فشله في تنفيذ إرادة الملك هنري الثامن، وانتهى الأمر بالمفكر توماس مور إلى الإعدام بعد رفضه الاعتراف بسيادة الملك الدينية.
هكذا يتكرّر النمط ذاته: حين يعجز النظام عن إخضاع المؤسسة بأكملها، فإنه يبدأ بتصفية القيادة، لا بالجدل، بل بالإقصاء، وربما بالعقوبة الدموية.
وتشير هذه الوقائع أيضا إلى أن الرأس الديني، مهما بلغ من الاعتدال والولاء، يصبح عبئًا حين يكتسب شرعية مستقلة عن الحاكم، ما لم يتحول إلى مجرد تابع وظيفي. وأن ترويض المؤسسة يبدأ غالبًا من قمتها.
خامسا: النتائج على المؤسسة الدينية:
الأزهر بعد الترويض:
بعد صدور قانون تطوير الأزهر عام 1961، فقدت المؤسسة الكثير من استقلالها، خاصة فيما يتعلق بالتعيينات القيادية وتمويلها الذاتي، إذ أصبحت خاضعة للسلطة التنفيذية من حيث التوجيه والموازنة. ونتيجة لذلك، أصبح الخطاب الديني الصادر عنها أكثر انسجامًا مع توجهات الدولة القومية في تلك المرحلة، وتراجعت هيبة الأزهر التقليدية لصالح مؤسسات مستحدثة أُنشئت لتكون أذرعًا فكرية رسمية.
ومع ذلك، ظل الأزهر محتفظًا بجزء من رمزيته الدينية والتعليمية، وظلت فيه بقايا من الاستقلال الفكري، وبدأت تظهر بوادر لاستعادة هذا الاستقلال في العقود اللاحقة، لا سيما بعد ثورة 2011، التي أعادت طرح أسئلة العلاقة بين الأزهر والدولة في الفضاء العام.
الكنيسة الإنجليزية بعد الانفصال:
أما في الحالة الإنجليزية، فقد أدى الانفصال عن روما إلى تحويل كنيسة إنجلترا إلى كنيسة وطنية خاضعة مباشرة للتاج، وتبنّت تدريجيًّا استقلالًا عن السلطة البابوية، مما مهّد لظهور البروتستانتية الإنجليزية التي تطورت لاحقًا إلى تيارات لاهوتية متعددة. غير أن هذا التحوّل لم يتم بسلاسة، إذ واجهت البلاد صراعات دينية عنيفة بين الكاثوليك والأنجليكان، وامتد التوتر إلى داخل الأسر المالكة والطبقات السياسية. ومع مرور الوقت، أصبحت العلاقة بين الدين والسياسة أكثر وضوحًا، وتحوّلت إنجلترا إلى واحدة من أوائل الدول التي مارست شكلًا واقعيًّا من العلمانية دون أن تُصرّح بذلك رسميًّا، فاحتفظت بمؤسسة دينية رسمية، لكن خفّضت من أثرها على القرار العام والحريات الدينية داخل الدولة الحديثة.
تكشف تجربة الأزهر في عصر عبد الناصر أن المؤسسة الدينية، حين تفقد استقلالها، لا تفقد مكانتها الرمزية فحسب، بل تفقد قدرتها على القيام بوظيفتها الأصلية في الشهادة على الحق، والمساءلة الأخلاقية للسلطة.
غير أن ما جرى في ستينيات القرن العشرين لم يكن استثناءً في تاريخ الأزهر، بل امتدادًا لمحاولات سابقة مارستها قوى حاكمة منذ العصر الفاطمي مرورًا بمحمد علي باشا، الذي سعى إلى تحويل العلماء إلى موظفين في جهاز الدولة، عبر التحكم في الأوقاف والتعيينات، وانتهاءً بالأنظمة الحديثة التي حاولت تأميم الأزهر فكريًّا ومؤسساتيًّا. لكن هذه المحاولات، رغم نجاحها الجزئي، لم تفلح في قتل الروح الأزهرية المستقلة التي ظلّت تقاوم، بصوت العالم، أو بفتوى في الهامش، أو باستقالة صامتة ذات دلالة.
وقد يكون الطريق إلى تجديد الأزهر اليوم لا في تحديث المناهج فقط، بل في تحرير المؤسسة من التبعية السياسية، واستعادة استقلالها العلمي والإداري، لتعود كما كانت: ضميرًا للأمة، لا بوقًا للسلطان، ومؤسسة تقف بجانب المظلوم لا بجانب الحاكم، وتقول “لا” حين تصمت الدولة، وتذكّر أن العلم الشرعي إذا انفصل عن الحرية، يصبح تزكية للواقع لا تصحيحًا له.
د خالد نصر
بوسطن ١ أغسطس ٢٠٢٥