معضلة فلسطين والنبوءات

تعد النبوءات والإلهامات في حياة الأمم موضوعًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه التاريخ بالدين، والأسطورة بالواقع، والسياسة بالإيمان.
ومع تنوع الثقافات والحضارات إلا أنها تقريبا اتفقت في التأثر بالنبوءات والإلهامات، وتصرفت في كثير من الأحيان على مقتضاها.
ومع أن النبوءة مصطلح عام يشمل الإلهي الحقيقي، والبشري المدعى، فإنني سأركز أكثر على القسم الثاني وتأثيره:
أولا: من جهة التعريف:
● النبوءة: خبر أو بيان يُنسب إلى مصدر إلهي أو علوي، يتضمن عادةً تنبؤًا بالمستقبل أو كشفًا عن واقع خفي.
● الإلهام: شعور داخلي يُعتقد أنه من مصدر إلهي أو قوة عُليا، يقود صاحبه إلى فعل معين أو رؤية خاصة.
ثانيا: من جهة التأثير:
للنبوءات والإلهامات تأثير كبير وواسع في حياة الأمم نستطيع أن نشير إلى أهم أبعاده:
١- التأسيس للسلطة الشرعية: وذلك مثلا كنبوءات ظهور المهدي التي تعطي حقًّا دينيًّا.
٢- التعبئة والتحفيز الجمعي: ومثال ذلك إطلاق الرؤى والإلهامات قبل المعارك الكبرى.
٣- بناء هوية قومية معينة: وذلك كنبوءات اليهود في وطن قومي مثلا بعد الشتات.
٤- تفسير الواقع وتبرير المعاناة: لا سيما في أوقات الشدة، وذلك للعود إلى نبوءات قديمة.
٥- التضليل الممنهج: وذلك بنشر النبوءات والإلهامات لخلق واقع معين.
ثالثا: نماذج واقعية من النبوءات التي غيرت مجرى الأحداث:
على مر التاريخ أثرت النبوءات في الأحداث والكثير منها أوجد واقعًا جديدًا وسنذكر هنا بعض النماذج:
النموذج الأول: رؤيا قسطنطين:
وردت القصة في كتاب “حياة قسطنطين” (Vita Constantini) الذي كتبه المؤرخ المسيحي أوسابيوس القيصري (Eusebius of Caesarea)، أثناء تحرك الإمبراطور قسطنطين نحو معركة “جسر ميلفيوس” ضد خصمه ماكسنتيوس عام 312م، رأى في السماء علامة الصليب، ومعها عبارة باللاتينية:
“In hoc signa Vinces”
بهذه العلامة تنتصر(✝️)
ثم رأى في المنام أن المسيح أمره أن يجعل هذه العلامة شعارًا لجنده، فصنع راية حربية خاصة تحمل رمز الكايرو (☧)، وهما أول حرفين من اسم “المسيح” باليونانية.
انتشر خبر هذه الرؤيا بين الجنود، وبالفعل انتصر قسطنطين وهزم ماكسنتيوس بعد تلك الرؤيا، واعتبر النصر “إلهيًا”، وأرجعه إلى الإله المسيحي، وكان نتيجة ذلك أنه بعد عام أصدر قسطنطين مرسوم ميلان 313م الذي أنهى اضطهاد المسيحيين، وأعلن الحرية الدينية، وفي العقود التالية، دعم الكنيسة، وبنى الكاتدرائيات، وأصبح أول إمبراطور مسيحي فعليًّا.
النموذج الثاني: نبوءة جان دارك:
جان دارك Jeanne d’Arc فتاة فلاحة بسيطة ولدت عام 1412م في قرية دومريمي في الوسط الشرقي من فرنسا، وفرنسا كانت في خضم حرب المائة عام ضد إنجلترا، والوضع العسكري كان كارثيًّا، وعرش فرنسا مهدد بالضياع.
فملك فرنسا السابق زوج ابنته لملك الإنجليز على أن يؤول عرش فرنسا كلها لملك الإنجليز بعد وفاته، وحينما توفي ترك ابنه “تشارلز السابع” الذي لم يكن متوَّجًا، وكان فاقدًا للشرعية الفعلية،كما احتلت بريطانيا جزءًا كبيرًا من شمال فرنسا، وانفصل البورجنديون وهم فرنسيون عن مملكة فرنسا، واحتلوا باريس، وتحالفوا مع الإنجليز، ولم يبق من مملكة فرنسا إلا أجزاء جنوبية وريفية.
في هذا الوقت العصيب جاءت رؤيا جان دارك، في سن 13، فقالت جان إنها بدأت ترى رؤى من السماء؛ أصوات من القديسين (ميخائيل، كاترين، مارغريت).كانت تخبرها بأنها ستقود الجيش الفرنسي لطرد الإنجليز، وتتوج الملك تشارلز السابع، وتحرر فرنسا وتوحدها.
وبالفعل أقنعت كبار القادة بلقائها بالملك (ولي العهد حينها)، الذي منحها قيادة معنوية للجيش، وجعل لها راية مميزة في أول الجيش، وأطلق عليها Maid of Lorraine أي عذراء أورليان، وصار الناس يتبركون بها، واجتمع حولها كثير من الناس، حتى حررت أورليان عام 1429 في معركة فاصلة، ومهدت الطريق لتتويج تشارلز السابع في ريمس كما وعدت.
ومع أنها تعرضت للخيانة بعد ذلك من تشارلز وكهنة الكنيسة وأحرقت بدعوى الهرطقة والتجديف في محاكمة كنسية، إلا أن نبوءتها أثرت في تاريخ فرنسا، وغيرت مجرى الحرب، وأدت إلى توحد فرنسا مرة ثانية، وتحولت هي بعد ذلك إلى أيقونة فرنسية، حتى أنها أعلنت قديسة في الكنيسة الكاثوليكية سنة 1920.
النموذج الثالث: نبوءة الرايات السود:
من النماذج الإسلامية للنبوءات المؤثرة في التاريخ نبوءة أطلقها بنو العباس ومواليهم عن الرايات السود التي تنحدر من المشرق الإسلامي لا يوقفها أحد.
لم يعتمد بنو العباس في نشر هذه النبوءة على الرؤى فقط، بل صنعوا لها أحاديث، والغريب أنها رويت في بعض كتب السنة ومن ذلك:
«إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوا إليها، فإن فيها خليفة الله المهدي» [رواه الحاكم والبيهقي وابن ماجه وإسناده مختلف عليه كما هو معلوم].
وقد انتشرت هذه الأحاديث والنبوءات في المشرق الإسلامي والعراق، واستشعر بها حاكم خراسان الوالي نصر بن سيار، وكتب لبني أمية في دمشق يحذرهم من خطر هذه النبوءات، ومن ذلك قصيدته الشهيرة:
أرى خلل الرماد وميض جمر… فيوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى… وإن الحرب مبدؤها الكلام
فإن لم تطفئوها تجن حربًا… مشمرة يشيب لها الغلام
فقلت من التعجب ليت شعري… أأيقاظٌ أمية أم نيام
فإن يقظت فذاك بقاء ملك… وإن رقدت فإني لا ألام
فإن يك أصبحوا وثووا نيامًا… فقل قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك ثم قولي… على الإسلام والعرب السلام
استغل العباسيون النبوءة لتأليب الجماهير، وربطوا أنفسهم بالمهدي، وساد الاعتقاد أنهم هم الموعودون، واستغل ذلك أبو مسلم الخراساني وجعل رايته سوداء مكتوبًا عليها (يا محمد يا منصور)، فاستولى على خراسان وما وراءها، وأرسل جيشه مع قحطبة بن شبيب ففتح العراق، ومن بعدها توالت الهزائم الأموية حتى قتل آخر خليفة أموي في مصر سنة 132هـ، وبدأت الدولة العباسية التي استمرّت حتى ظهور الخلافة العثمانية.
النموذج الرابع: نبوءة مسلمة بن عبد الملك:
تقول النبوءة: إن مسلمة بن عبد الملك كان على اتصال ببعض من يحدث بأخبار الحدثان، وأنه كان يروي أن ملك بني أمية في المشرق إلى زوال، ولكنه سيتجدد في المغرب على يد شاب أموي له أوصاف خاصة، حتى أنهم رووا أن مسلمة بن عبد الملك عندما شاهد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام،توسم فيه “أمارات النجابة والمُلك”، وقال: إن ذلك الفتى هو الذي سيعيد إحياء دولة بني أمية في المغرب بعد زوالها من المشرق.
آمن عبد الرحمن بهذه النبوءة وجعلها من أمامه، وعندما هُزِمَ مروان بن محمد في الزاب، خرج عبد الرحمن لنواحي فلسطين ومنها هرب لمصر، حيث انتقل لشمال أفريقيا، ومن هناك بدأ يراسل موالي بني أمية وقبائل اليمنية الموتورين والمخالفين لحاكم الأندلس يوسف الفهري وحليفه الصميل بن حاتم القيسي، وانتقل عبد الرحمن إلى الأندلس، وهناك اختار أيضا موعد المعركة الفاصلة بينه وبين الفهري والقيسية لتوافق حدثًا، انتصر فيه بنو أمية لتكتمل النبوءة والبشارة، فقاتلهم يوم عيد الأضحى، وهو يوم يوافق معركة شهيرة انتصر فيها بنو أمية واليمنية على الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط، فتفاءل أتباعه، وتشاءم أتباع أعدائه وانهزموا، ودخل عبد الرحمن قرطبة، وسمي من وقتها (عبد الرحمن الداخل) وأقام دولة أمويّة استمرّت لثلاثة قرون متتالية.
النموذج الخامس: نبوءة فتح القسطنطينية:
أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن بشر الخثعمي، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش». والحديث صححه الحاكم والذهبي وغيرهما.
وكان لهذه النبوءة الأثر الكبير في محاولات فتح المدينة، حتى أنه ورد أن المحاولات وصلت لاثنتي عشرة محاولة، على مدار 800 سنة، لم تنقطع.
بدءا من محاولة معاوية بن أبي سفيان سنة 671 م والتي حضرها سيدنا أبو أيوب الأنصاري وتوفي هناك، وقبره ما زال هناك يزار بالقرب من سور المدينة القديمة، ومرورًا بحملة مسلمة بن عبد الملك والتي كانت الأكبر سنة 717م واستمرت لعامين، ولم تفلح. وعدة محاولات عثمانية منها حملة مراد الأول، وبايزيد الأول، ومراد الثاني والد محمد الفاتح.
وأخيرا: تم الفتح على يد السلطان محمد الثاني الذي كان عمره وقتها 21 عامًا، حيث استخدم مدافع ضخمة، وسفن نُقلت على اليابسة، وخطط محكمة، ودام الحصار 53 يومًا ثم سقطت القسطنطينية في 29 مايو 1453م،
وتحول اسمها إلى إسلامبول.
رابعا: معضلة فلسطين والنبوءات:
معضلة فلسطين تُعد من أكثر قضايا العصر تشابكًا بين السياسة والتاريخ والدين، وهي من القضايا القليلة التي لا تُفهم بالكامل إلا بفهم ما يُحيط بها من نبوءات دينية ورؤى آخر الزمان في الديانات الكبرى الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.حيث لا توجد بقعة في الأرض اجتمع عليها من النبوءات ما اجتمع لهذه البقعة، ومن ثم كانت مجالا للحرب والصراع طول التاريخ، وستبقى على ذلك لأمد يعلمه الله سبحانه.
النبوءة اليهودية:
يرى اليهود أنهم وعدوا بهذه الأرض، وأن الرب منحها إبراهيم وبنيه من نسل إسحاق، وأن النبوءة أخبرتهم أن لهم من النيل إلى الفرات، حيث وعد الرب إبراهيم: أن يهب نسله الأرض من “النيل إلى الفرات” [سفر التكوين].
وأيضا نبوءة العودة بعد الشتات وأن اليهود سيُطردون ثم يعودون إلى أرض صهيون في آخر الزمان. [سفر إشعياء، وحزقيال]. ونبوءة بناء الهيكل الثالث حيث سيُعاد بناء الهيكل في القدس، ويأتي “المسيّا المنتظر”.
وقد وظفت الصهيونية الحديثة هذه النبوءات لتبرير الاستيطان وقيام إسرائيل.كما أن الحركات الدينية مثل (غوش إيمونيم) ترى أن الاستيطان في فلسطين يُسرّع بقدوم المسيّا.
النبوءة البروتستانتية:
يؤمن التيار الإنجيلي البروتستانتي (Evangelicals) بنبوءة ما يسمى بالألفية المسيحية التي ستأتي بعد معركة هرمجدون، فوفقًا لسفر الرؤيا تتحالف قوى الشر بقيادة الدجال (الوحش)، وتنشب معركة كبرى بينه وبين المسيح العائد (يسوع) وأتباعه في سهل هرمجدون، وهو مكان قريب من مكان موقعة عين جالوت الشهيرة. وفي المعركة تُهزم قوى الشر ويُقتل الوحش والنبي الكذاب، ويُسجن الشيطان ويبدأ “العصر الألفي” لحكم المسيح في سلام وعدالة.
ولكن كي يتحقق ذلك لا بد من عودة اليهود لفلسطين لينزل عليهم المسيح من جبل الزيتون، ولذلك يؤيد الإنجيليون إسرائيل تأييدًا مطلقا حتى تتحقق النبوءة. فأرمجيدون هي نبوءة مسيحية عن معركة نهائية في فلسطين بين قوى الخير والشر، تنتهي بعودة المسيح وسقوط قوى الشيطان، تحوّلت عبر القرون إلى مفهوم لاهوتي – سياسي – ثقافي، تُستخدم اليوم في تفسير الصراعات في الشرق الأوسط، وتُوظَّف لتبرير التحالفات أو العنف.
الموعود القرآني:
أما نحن المسلمين فلدينا أيضا موعود إلهي بالعودة لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وأننا سندخل المسجد كما دخلناه من قبل في وقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال تعالى: ﴿‌فَإِذَا ‌جَاءَ ‌وَعْدُ ‌الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: 7]، ولدينا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تتحدث عن بقائنا في أرض فلسطين مدى الدهر ومنها الحديث:
«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق… وهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس». [رواه الطبراني وحسّنه الهيثمي].
والنتيجة الحتمية التي تنتج عن اجتماع النبوءات في بقعة واحدة محددة ومن أطراف مختلفة، أن كل طرف يرى أن الآخر عدو النبوءة ومانع للتحقق الإلهي، وهذا يُنتج حالة من الصراع المسلح والتمسك العقائدي بأرض واحدة، لا تسامح فيها ولا مشاركة. كما أن تعدد النبوءات حول فلسطين حوّلها من أرض قابلة للحلول، إلى أرض محاصَرة بالعقائد والتصورات المطلقة، كل طرف يعتقد أنه يُمهّد الطريق لـ”خلاص سماوي”، مما يجعل الصراع ليس سياسيًّا فقط، بل وجوديًّا ونبوئيًّا، وهذا ما يجعل صراعنا مع أعدائنا أكثر شراسة من غيره، ويجعل الثمن المبذول أكثر فداحة وأكثر إيلامًا، وهو ثمن لا بد أن ندفعه على كل حال، ليس فقط لأنه واجب ديني وموعود إلهي، ولكن لأن أعداءنا يصدرون عن عقيدة لا تنتهي إلا بالاستئصال، ومن يظن أن العدو سيقبل بالسلام أو بحق التعايش فهو واهم بقصد أو بغير قصد.
ونحن المسلمين مع أننا محاصرون بقوة أعدائنا وبإيمانهم الظاهر بنبوءاتهم، إلا أنه لدينا بالإضافة إلى الموعود الديني، لدينا عناصر أخرى في صالحنا، وهي أصعب ما سيواجهه أعداؤنا، فلدينا التاريخ الممتد لأكثر من خمسة آلاف سنة في هذه الأرض، ولدينا الجغرافيا التي تحيط بالبقعة كإحاطة السوار، ولدينا البعد السكاني الممتد والذي لا ينتهي، وهي عناصر أقوى من النبوءات، لأننا لم ننجح في تحقيق نبوءة القسطنطينية حتى غيرنا هذه العناصر الثلاثة.
أما أعداؤنا فلن يستطيعوا تغيير هذه العوامل وإن اجتهدوا.
د. خالد نصر

موضوعات ذات صلة