من تحديات المسلمين في الغرب (المقال الأول)

من تحديات المسلمين في الغرب
مدونة المعاملات المالية
(المقال الأول)
الخوف المحرِّم [بكسر الراء وتشديدها]
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة ما زالت تمثل أرض الأحلام بالنسبة للكثير من الناس حول العالم، ومنهم المسلمون بالطبع. تمثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وجهة رئيسة للهجرة من بلاد الإسلام للغرب، لا سيما بعد تعديل قانون الهجرة والجنسية في عهد الرئيس جونسون عام 1965م، ومع الوقت صار هناك أجيال متعددة من المهاجرين، وصار هناك الجيل الثاني المولود للمهاجرين، وهناك الجيل الثالث الذي بالكاد يميز الثقافة الأم لأجداده، بل هناك في بعض الحالات الجيل الرابع.
مع هذه الموجة من الهجرة والتي لها أسباب عديدة، منها أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية نجد أن كثيرًا من التحديات ليس أقلها تحدي الهوية، وهو أمر لا يهتم به المسلم كثيرًا حين يكون في موطنه الأول، فالمصري أو الخليجي أو العراقي أو الباكستاني أو غيرهم، ليس لديهم مشكلة في تحديد هويته، فهو مسلم ومصري، أو مسلم وباكستاني، وكونه ينتمي لهذه البقعة وهذا الدين هو عنده نوع من التكامل، لا يتطلب منه حيلة دفاعية للحفاظ على هويته.
أما في بلاد الغرب ومع جو الحرية الكبير الممنوح للجميع، وإن كان بصورة متفاوتة بين بلد وآخر، نجد أن صراع الهوية واضح، ليس فقط بين أفراد الجيل الأول المهاجر، ولكنه أحيانا في بعض أفراد الجيل الثاني ذي الولادة والنشأة في المجتمع الغربي.
اختار البعض التماهي مع المجتمع الذي يعيش فيه، تحريمًا وتحليلًا، إباحة وحظرًا حتى وإن خالف في ذلك تعاليم الشريعة، فاستبدل هوية بهوية.
وبالمقابل هناك فريق آخر سار في الاتجاه المعاكس تمامًا، وصار رافضًا للهوية الجديدة، رافضًا كل ما فيها، واستعمل في هذا أدوات عدة ليس أقلها العزلة الشعورية [ومعناها هنا هو الاختلاط بالناس وبالمجتمع اختلاطًا جسديًّا، مع اعتزاله في المعتقد وفي السلوك].
ومع أن البعض قد ينظر إلى الفريق الثاني بنظرة الموافقة والإعجاب، إلا أننا بالتأمل في الكثير من الحالات، نجد أن وسائل الحماية التي يستعملها هذا الفريق ربما تؤدي إلى مشاكل أخرى، منها التطرف والجنوح في الأحكام والقسوة في التعامل بسبب التعالي الذاتي الناتج عن العزلة.
ومنها كذلك بعض الأمراض النفسية كسيطرة الشك والتشكيك، والعيش في نظرية المؤامرة، ومن أهم ما نلاحظه على هذا الفريق في أحيان كثيرة سيطرة الخوف المحرِّم.
فما الخوف المحرِّم؟
ما قصدته بهذا المصطلح هو سيطرة عقلية التحريم والمنع والحظر على تفكير شخص ما أو جماعة، نتيجة الخوف على الهوية.
فالدافع في الحقيقة للتحريم ليست مقاييس وضوابط التحريم، وليس الموازنة بين الأدلة والدفوع، أو رجحان الاجتهاد، وإنما هو في حقيقته الخوف؛ لأن في القول بالحل في تصور هؤلاء تهديد واضح للهوية الإسلامية، وقد يقود إلى استسلام البعض لسطوة البيئة المحيطة، والتي غالبًا لا تراعي القيم الإسلامية.
وسأعطي هنا بعض الأمثلة للتوضيح:
المثال الأول:
جاء رجل متدين [أقصد بالتدين هنا التدين في صورته الشعائرية، حيث إن معرفة حقيقة التدين تصعب كثيرًا في زماننا هذا وتحتاج إلى استقراء طويل لمجهل الأفعال والأقوال] لديه مصنع صغير إلى أحد العلماء المشهورين بالعلم والاجتهاد والخبرة بواقع حياة الناس في بلاد الغرب وكانت شكواه كالآتي:
يقول: أنا لدي مصنع، ومؤجر لمقر المصنع منذ فترة طويلة.
ويقول: دفعت فقط في العشر سنوات الماضية ما يقارب المليون دولار إيجارًا للمكان، وكان بإمكاني أن أشتريه منذ عشر سنوات بثلث هذا المبلغ، إذا أخذت قرضًا من البنك، ويقول: الآن عندي فرصة أخرى أن أشتري هذا المكان بمبلغ معقول، ولكن أحتاج قرضًا من البنك. ويقول: إن ميزة القرض لا تتوقف فقط على أني سأتملك المكان، ولكن قيمة الفائدة ستفيدني في الضرائب في نهاية العام، وفي خلال عشرة أعوام سأمتلك المكان عينًا، وأكون قد وفرت على نفسي مبالغ الإيجار والضرائب.
فلما جاء دور المفتي ذكر له الآراء المتنوعة في المسألة، وذكر له رأي السادة الأحناف (عدا أبي يوسف) وأنهم يجيزون هذا النوع من المعاملة إذا كانت بين المسلم وغير المسلم في بلاد الكفر حسب التقسيم الفقهي، وقال له: لك أن تقلد الأحناف في هذا، وأنا أفتي به في مثل هذه النوازل لأسباب عدة، منها:
-الحاجة المفضية.
– غياب البديل المتفق عليه.
– الحفاظ على أموال المسلمين.
– الفائدة الاقتصادية التي تعود على المجتمع المسلم.
-قيام المصلحة العاجلة والآجلة في الأخذ برأي الأحناف.
– المردود السياسي والاجتماعي لقوة المسلمين الاقتصادية.
-استعمال فضل المال المكتسب في تقوية الكيانات الإسلامية في الغرب.
وغيرها من الأسباب التي تدعو لتبني هذا الرأي، حتى وإن كان مرجوحًا في نظر البعض، وكيف لا؟ ولهذا الرأي أدلته وفلسفته [ليس قصدنا هنا مناقشة رأي الأحناف وأدلتهم، ولكن سُقْتُ الأمر للتدليل فقط].
والحق أني ظننت أن الرجل سيبتهج لهذا الرأي، أو حتى يطلب الزيادة فيه وسماع الأدلة، إلا أنني وجدته يهاجم المفتي، ويتهمه بالتساهل والتبرير، ومخالفة الإجماع، على حسب تعبيره، بل ويطلب منه عدم الإفتاء بهذا الرأي له أو لغيره.
فهذا نموذج لشخص متدين جاء بمشكلة يطلب لها حلًّا شرعيًّا، ولكنه في تقييمه لهذا الحل لم يتحاكم لقواعد الشرع، فهو ليس عالمًا بها أصلًا، ولكنه تحاكم إلى “الخوف المحرِّم”، وفي ظنه أننا إذا سرنا في هذا الطريق سنخسر الدين جملة، وأن هذا ليس رأيًا فقهيًّا وإن كان، ولكن هذا نوع من أنواع الاستسلام الذي سيؤدي إلى ضياع الهوية، والأسلم عنده هو المنع والتحريم حفاظًا على الهوية.
المثال الثاني:
وهو يشبه الأول ولكنه أكثر تعبيرًا عن العنوان، حيث كنت أعطي خطبة الجمعة في أحد الولايات وذكرت فيها مسألة التأمين التجاري، وأنه من العقود الشائعة وله أنواع كثيرة، وذكرت رأيي فيه وأنه عقد جائز في أصله، بل إنه مطلوب في بعض الحالات [الخلاف قائم بين الفقهاء في مسألة التأمين التجاري، واختيارنا فيه أنه عقد على الأصل، فيه الإباحة كمعظم عقود المعاوضات، والبعض يمنعه بدعوى اشتماله على الغرر، وقد تكلمت عن دعوى الغرر في بحث لي من قبل]، سواء كان تأمينًا طبيًّا أو على السيارة أو على الحياة أو غير ذلك، فاستوقفني أحد الحاضرين بعد الخطبة وكان شديد العصبية، وبدأ يتهمني بالتفريط والتحريف في الفتوى وفتنة الناس، وعندما حاولت أن أتناقش معه بالأدلة رفض وذهب لأحد القائمين على المركز الإسلامي يلومه على إعطائي حق الكلام على المنبر، وعند هذا القدر نستطيع أن نفهم ردة الفعل هذه، فلعله يتبنى رأي المانعين ويدافع عنه بحماس زائد كما هو الحال مع البعض، ولكن الغريب أنه ذكر لمن تحدث معه أنه لديه تأمين، ليس هذا فقط بل لديه قرض بفائدة من البنك اشترى به بيته، وآخر لسيارته ومع ذلك فهو لا يُجيز أن يقول أحد: إن هذه المعاملات ليست محرمة.
فنجد هذا التناقض بين التنظير والتطبيق، فيقبل على نفسه الوصف بالمعصية وارتكاب الممنوع، ولا يقبل أن يجيزه على أحد ولو برأي فقهي معتبر، وهذا هو الخوف المحرِّم.
المثال الثالث:
ألقى أحد العلماء المقاصديين محاضرة في أحد المراكز الإسلامية وكان موضوع المحاضرة عن الطبيعة المقاصدية للفقه الإسلامي، وركز في محاضرته على فترة التشريع الأولى في عهد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الأربعة، وتعمد ألا يعرض لفترات لاحقة لتجنب الهجوم عليه من بعض الطوائف التي لا ترى الدين والشريعة إلا فترة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومع ذلك فلم يسلم من الهجوم ولذات السبب الذي ذكرته قبلُ، وهو الخوف على الهوية، فذِكْرُ كلمة (مقاصد) عند البعض يعتبر تهديدًا للهوية، وبابًا خلفيًّا للتنصل من الأحكام، ربما يؤدي إلى تبني أفكار علمانية (يحلو للبعض استعمال هذه الكلمة لتشويه الأفكار)؛ على حين ذهب البعض إلى أن أفكار المحاضرة ما هي إلا إعادة صياغة لأفكار الدكتور القرضاوي قدس الله روحه، وهو هنا لا يقصد المدح بل يقصد الذم.
إن هؤلاء المنتقدين في حقيقتهم أناس متدينون، وليس لديهم نوايا سيئة بالطبع، ولكن محركهم في القبول والرد، والتحليل والتحريم، ليس تراسل الأدلة أو تعارضها، وليس أدوات الفقه والفقهاء، بل المحرك هو الخوف على الهوية.
إن هذه الأمثلة وغيرها عشرات الأمثلة مما قابلت في فترة إقامتي في الولايات المتحدة، وهي طويلة، وما قابل غيري من أصحاب النظرة المقاصدية، ترجع في الكثير منها إلى مسألة الهوية، فلا الشخص الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا غيرهم – في الأعم الأغلب – يهمه المناقشة الفقهية الموضوعية، ولا يهمه الاستماع للدليل، ولو كان لمصلحة قضيتهم، ولكن المسيطر عليهم وعلى البعض هو الخوف من الإباحة؛ لأنها قد تؤدي إلى ضياع الهوية.
والحق أن هذا المسلك لن يحافظ على الهوية كما يظن البعض، كما أن ثقافة التحريم، والتي تأخذ أحيانا نمط (الجيتو الديني) لن تفيد، وهي بضاعة مزجاة حتى مع أبناء الجيل الأول، وأشد ما فيها أنها ستولد نفاقًا سلوكيًّا كحالة المثال الثاني، فالاعتراف بالذنب ليس دليلًا على الطهارة ما لم نكف عن الذنب نفسه.
إن الشريعة الإسلامية ليست طفلًا صغيرًا نخاف عليه أن يتخطفه الناس، فالشريعة بأدواتها فيها أسباب الحفظ والبقاء، وهي عصية على التحريف طوال تاريخها، ولا تحتاج لتحوط المتحوط، ولا تشدد المتشدد، ولا وصاية الوصي لبقائها.
لا أقول هذا لتمرير طريقة فقهية معينة، فالخلاف الفقهي قائم من العصور الأولى، وسيستمر ما استمرت الشريعة، وهو عند هذا القدر مقبول، بل مطلوب، لكني أرصد ظاهرة سلوكية لها عواقب سلبية على مستقبل الجالية الإسلامية، ظاهرة تظهر نوعًا من الجنوح الفكري السلوكي، والذي ربما لن يقف عند حدود المختلف فيه، بل ربما تعداه لتحريم الحلال تذرعًا، مع ما يتبع ذلك من نفرة الأجيال الجديدة من كثرة المحظورات والمحرمات، أو ربما أدى إلى النفاق السلوكي بين التنظير والتطبيق.
انتهى المقال الأول ويتبع المقال الثاني وهو بعنوان (من المستفيد من كثرة التحريم في باب المعاملات المالية؟).
د/ خالد نصر

موضوعات ذات صلة