View Categories

(ت26) أرجو تفسير الحديث الآتي: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلاَفَهَا، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، وَقَالَ: «كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا». [رواه البخاري]. ما معنى الاختلاف هنا؟ هل المراد الاختلاف اللفظي أم في طريقة القراءة؟

أولا : هذا الحديث رواه البخاري وغيره فهو من جهة السند حديث صحيح الإسناد.
والرواية المشار إليها هي رواية الإمام البخاري وهي رواية مختصرة، وعند أحمد قال: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، حدثني عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يحدث عن عبد الله، قال: سمعت رجلا يقرأ آية على غير ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلاكما قد أحسن». قال: وغضب حتى عُرِفَ الغضبُ في وجهه، قال شعبة: أكبر ظني أنه قال: «لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فيه فهلكوا».
ثانيا: من المعلوم أن القرآن في بداية نزوله نزل بطريقة واحدة في القراءة على مقتضى اللسان الحجازي (مكة والمدينة والطائف) ، فلما دخلت قبائل العرب في الإسلام بعد صلح الحديبية، وكذلك استقر نزول القرآن، دعا النبي ربه في أكثر من مناسبة أن ييسر على الناس طريقة قراءة القرآن بطريقة توافق لهجاتهم .
فجاء التخفيف بأكثر مما طلب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف، ومن هذه الروايات:
– حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» [رواه الشيخان].
– روى مسلم عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أَضَاةِ بني غفار [الأضاة: الماء المستنفع كالغدير]، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ». فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ». ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ». فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ». ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَحْرُفٍ». فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ». ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا».
– وروى الترمذي بسنده عن أبي بن كعب قال: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ». قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
ثالثًا: اختلف العلماء في تفسير المقصود بالأحرف على أقوال كثيرة ذكر السيوطي منها أكثر من ثلاثين قولا.
والصواب أنها سبعة طرائق عَلِمَها النبيُّ من جبريل عليه السلام وطبقها في قراءة القرآن على ما يقتضيه التخفيف والعلل الأخرى التي تنوعت القراءات من أجلها. وهو الذي رجحه الدكتور عبد العزيز عبد الفتاح القارئ في كتابه الماتع (حديث الأحرف السبعة).
رابعًا: غالب التنوع في القراءات القرآنية المتولدة من الأحرف السبعة هي تنوعات صوتية وذلك كالإمالة والتقليل، وتسهيل الهمزات، وطول المدود، وصلة ميم الجمع، والإدغامات، والسكت وغيرها. والأقل من ذلك ظواهر إعرابية وصرفية، والأقل هو تغيير صورة الكلمة أو حصول الزيادة والنقصان أو التبديل وغالبا ما تكون في حروف.
خامسًا: تنوعت حكمة تعدد القراءات القرآنية وهي باختصار:
١- موافقة بعض اللهجات العربية: وذلك كأبواب التسهيل والتحقيق والإمالة والفتح والسكت والوصل والإظهار والإدغام وغيرها.
٢- إثراء اللغة العربية وقواعدها: ومن ذلك مثلا جواز العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض كما في قوله تعالى: ﴿‌الَّذِي ‌تَسَاءَلُونَ ‌بِهِ ‌وَالْأَرْحَامِ﴾ [النساء: 1] بكسر الأرحام في قراءة حمزة، أو الفصل بين المتضايفين بمعمول المضاف كقراءةِ ابنِ عامر: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ ﴾ [الأنعام: 137].
والتّقدير: قتلُ شركائِهم أولادَهم.
فأفاد منها الشعراء كالمتنبي مثلا حين قال:
حَمَلَتُ إليهِ مِن لِسَانِي حَدِيقَةً **** سَقَاهَا الحِجَى سَقْيَ الرِّياضَ السّحائبِ
أي: سقيَ السَّحائبِ الرياضَ.
٣- الجمع بين المعاني المتنوعة في آية واحدة: وذلك كما في قوله تعالى: ﴿‌فَأَزَلَّهُمَا ‌الشَّيْطَانُ﴾ [البقرة: 36]، أي: وسوس لهما حتى وقعا في الخطأ، ولكن لما وقع الخطأ فقد ترتب عليه عقوبة وهي زوال النعمة، فجاءت قراءة (فأزالهما الشيطان) فصارت كالفعل والنتيجة من خلال القراءتين.
٤- زيادة التوضيح والتفسير: كما في قوله تعالى: ﴿‌حَتَّى ‌إِذَا ‌اسْتَيْأَسَ ‌الرُّسُلُ ‌وَظَنُّوا ‌أَنَّهُمْ ‌قَدْ ‌كُذِبُوا﴾ [يوسف: 110]، بضم الكاف والتخفيف، أي رفضوا من قومهم، وقراءة: (كُذِّبوا) بضم الكاف والتشديد، أي اتهموهم بالكذب .
٥- دعم التنوع الفقهي: فقوله تعالى: ﴿‌أَوْ ‌لَامَسْتُمُ﴾ [النساء: 43] يفسر قراءة: (أو لمستم) فلا ينتقض الوضوء بمجرد اللمس، بل لا بد من الملامسة، وهي فعل بين اثنين من المفاعلة، كما هو رأي الجمهور، بخلاف الشافعية الذين يقدمون قراءة اللمس ويؤولون قراءة الملامسة.
٦- الإفادة في مسائل العلم والخبر: كما في قوله تعالى: ﴿‌وَمَا ‌كُنْتُ ‌مُتَّخِذَ ‌الْمُضِلِّينَ ‌عَضُدًا﴾ [الكهف: 51]، بضم التاء من (كنت) ردًّا إلى الله، وقراءة فتح التاء ردًّا إلى الرسول، وفيه تعديل لكل صحابته.
٧- التنوع البلاغي: وذلك كالانتقال من الخبر للإنشاء كما في قراءتي: ﴿‌أَنْ ‌كَانَ ‌ذَا ‌مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [القلم: 14]، أي لأنه كان، وقراءة: (أأن كان ذا مال وبنين) على سبيل الاستفهام التعجبي.
٨- التنوع في وسائل الفصل والوصل: وذلك كما في إثبات الواو من: ﴿‌وَسَارِعُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ﴾ [آل عمران: 133]، أو حذفها كما في قراءة: (سارعوا إلى مغفرة)، فواحدة موصولة معطوفة على ما قبلها، والأخرى مستقلة مستأنفة.
ومنه أيضا: ﴿‌وَقَالُوا ‌الْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌الَّذِي ‌هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43]، بإثبات الواو في (وما كنا) وبحذفها في قراءة ابن عامر: (ما كنا لنهتدي)، فالعطف بالواو يعني تعدد المقول والنعم، والحذف يعني اتصال الكلام وكأنه بيان لطريقة الهداية.
والخلاصة أن القراءات القرآنية قد أعطتنا كتبًا متعددة في نص واحد، وهذا من وسائل الإعجاز.
وأخيرًا: أود أن أضيف أن البعض يشبه اختلاف القراءات القرآنية باختلاف نسخ الإنجيل مثلا، وهذا خطأ بيّن؛ وذلك للآتي:
١- أن درجة توثيق النص القرآني كانت بأعلى درجات التواتر، وهو ما نسميه نقل الطبقة عن الطبقة، وليس الرجال عن الرجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم طبقة؛ إذ هو مصدر الوحي، والصحابة طبقة جملة، وتابعوهم طبقة، وهكذا حتى عصرنا الحالي، فلم ينفرد أحد بالرواية دون رجال الطبقة في أي قراءة. على حين أن نقل الإنجيل جاء برواية الآحاد باعتراف رجال الدين المسيحي أنفسهم.
٢- أن نسبة القراءات القرآنية للرواة نسبة تمييز وليست نسبة اختراع وتأليف، أما نسبة الأناجيل لأصحابها فهي نسبة إنشاء وتأليف كما في الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا).
٣- أن توثيق النص القرآني نطقًا وكتابة تم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، على حين أن كتابات الأناجيل كتابات فردية؛ فالأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) كُتبت بأسماء أفراد، وليست منقولة عن النبي عيسى عليه السلام مباشرة، بل بعده بعقود (حوالي ٣٠-٧٠ سنة بعد رفعه).
٤- أن لغة توثيق القراءات لم تتغير مع الوقت، فالقرآن عربي منذ كان، وكتب النص القرآني بقراءاته المتنوعة بالنص العربي، على حين أن النص الأقدم للأناجيل منقول ولا توجد النسخ الأصلية للأناجيل، بل أقدم النسخ الموجودة باليونانية، بينما كان عيسى عليه السلام يتكلم الآرامية.
٥- أن الاختلاف بين القراءات هو مسألة محصورة في الظواهر الصوتية واللغوية، أما الاختلاف بين الأناجيل فهو اختلاف في الصياغة والمعاني والنتائج، فمثلا يثبت إنجيل يوحنا ألوهية عيسى نصًّا، على حين أن الأناجيل الثلاثة الأخرى تعتبره ابن الله أو نبي الله، وكل ذلك بعبارات مختلفة تمامًا.
ومن ذلك مثلا قصة خلق آدم في القرآن بقراءاته المتنوعة متحدة ويكمل بعضها بعضا، على حين أن قصة صلب عيسى وقيامته وهي من أجل أمور العقيدة المسيحية تختلف باختلاف الإنجيل.
٦- أن جمع القراءات القرآنية في عهد عثمان في نص مكتوب تم بإجماع الصحابة الرواة وفي المدينة المنورة، على حين أن جمع الأناجيل كان مجهودًا فرديًّا من بعض تلاميذ المسيح، ولم يقع إجماع واحد على نسخة واحدة، فمثلا كتب يوحنا إنجيله في أفسيس، وكتب لوقا إنجيله في أنطاكية، أما مرقس فكتبه في روما، ولم يكن من تلاميذ المسيح بل تلميذ أستاذه بطرس. ولا يعرف بالتحديد مكان كتابة إنجيل متى.
٧- أن رواية القراءات خضعت لدرجة عالية من التوثيق، وذلك عن طريق ما يعرف بعلم الرجال (الجرح والتعديل)، ولم يقبل فيها إلا رواية التواتر، فكل ما ليس بالمتواتر لا يعتبر قراءة صحيحة، على حين أن الأناجيل رواية لم تعرف علم الرجال؛ لأنه لا يوجد ما يسمى علم الرجال في المسيحية، وثانيا لأن الكنيسة اعتبرت رواية الأناجيل تم بالإلهام من الروح القدس.
المفتي: د خالد نصر