ضريبة التوحش: فرنسا نموذجًا
ومن بين التجارب التي تكشف هذه المفارقة تجربة فرنسا منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين: دولة رفعت شعارات الحرية والعقل، لكنها اندفعت وراء نزعة التوسع والتوحش، فدفعت أثمانًا بشرية باهظة انعكست على ديموغرافيتها ومكانتها. إنها تجربة تختصر بعبارة واحدة: ضريبة التوحش.
ونحن العرب لم نعانِ من عدو كما عانينا من فرنسا، بدءا من بوهيموند (أمير تارانتو النورماني) الذي كان من أبرز قادة الحملة الصليبية الأولى (1096-1099)، وشارك في مجازر رهيبة عند احتلال أنطاكية ثم القدس.
وحتى مجازر 8 مايو 1945 (سطيف – قالمة – خراطة) حيث قُتل فيها أكثر من 45 ألف جزائري على يد القوات الفرنسية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما بعدها من مذابح حرب الاستقلال التي أودت بحياة أكثر من مليون مسلم كما كان يسميهم الاستعمار الفرنسي في بلاغاته الحربية.
أولًا: من الثورة إلى التوحش الداخلي:
عندما اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789، هزّت أركان أوروبا، وأعلنت بداية عصر جديد يقوم على مبادئ الحرية والمساواة والعقل، غير أن شعارات الثورة سرعان ما اصطدمت بواقع العنف والدم، فالمقصلة نصبت في الساحات العامة، وجرت حملات قمع عُرفت بعهد الإرهاب الثوري.
وفي الريف الغربي، شهد إقليم “فانديه” إبادة بشعة لمجرد تمرده على الحكومة الثورية، والتقديرات تشير إلى أن الثورة الفرنسية أودت بحياة ما يقارب نصف مليون إنسان بين قتلى الداخل وضحايا الحروب على الحدود.
كان ذلك أول درس حيث دفعت فرنسا ضريبة باهظة نتيجة تحوّل الحرية إلى توحش؛ فالثورة التي رفعت راية الكرامة الإنسانية انتهت إلى أن تلتهم أبناءها، وتفتح الباب أمام قائد عسكري طموح سيجعل من الدم وقودًا لإمبراطوريته: نابليون بونابرت.
ثانيًا: نابليون والإمبراطورية التي أكلت أبناءها:
نابليون بونابرت حمل فرنسا إلى ذروة مجدها العسكري؛ جيوشه اجتاحت أوروبا، وأدخلت أفكار الثورة إلى فيينا ومدريد وروما وبرلين. لكنه صنع هذا المجد بوقود بشري رهيب؛ ففي ستة عشر عامًا من الحروب النابليونية، فقدت فرنسا أكثر من مليون ونصف المليون من جنودها، إضافة إلى مئات الآلاف من المدنيين.
لقد تلاشت أجيال كاملة في جبهات روسيا وبروسيا وإسبانيا. وحين سقط نابليون في واترلو 1815، ترك خلفه بلدًا منهكًا، وحقولًا بلا شباب، وقرى ينعى بعضها بعضًا. الإمبراطورية التي صنعها سرعان ما تبخرت، لكن الدم الذي نزفه الفرنسيون ظلّ ندبة عميقة في جسد الأمة.
ثالثًا: القرن التاسع عشر بين طموح واستنزاف:
لم تتوقف فرنسا عن دفع ضريبة التوحش في القرن التاسع عشر، بل خاضت حرب القرم إلى جانب بريطانيا ضد روسيا (1853–1856)، وخسرت قرابة مائة ألف جندي، أكثرهم قضوا بالأمراض. ثم جاءت الحرب الفرنسية-البروسية (1870–1871) التي انتهت بكارثة: سقوط باريس، وإعلان الإمبراطورية الألمانية في قصر فرساي، ومقتل نحو مائة وثمانين ألف فرنسي.
هذه الحرب كشفت الفجوة الديموغرافية المتزايدة: بينما كان الألمان يتكاثرون بسرعة، كانت فرنسا تئن تحت ثقل نزيفها البشري. ومنذ ذلك الوقت أخذت فرنسا تفقد موقعها كأكبر قوة سكانية في أوروبا الغربية، بعد أن كانت في مطلع القرن التاسع عشر تنافس كل العالم العربي عددًا.
رابعًا: الحرب العظمى – ذروة الضريبة:
لم يكن هناك امتحان أفظع لفرنسا من الحرب العالمية الأولى (1914–1918). ففي أربع سنوات فقط فقدت البلاد نحو 1.7 مليون قتيل، أي ما يقارب 10% من رجالها البالغين، فضلًا عن أكثر من أربعة ملايين جريح ومعاق.
هذه الحرب لم تكن معركة حدود فحسب، بل كانت حرب استنزاف يومية. مدن فرنسية بأكملها نزفت رجالها في الجبهات. نصب تذكارية لا تزال حتى اليوم في القرى تحمل أسماء شباب لم يتجاوزوا العشرين. لقد كانت الحرب العظمى تجسيدًا حيًّا لفكرة “ضريبة التوحش”: كلما اندفعت الأمة في العنف، كلما أفرغت نفسها من قواها الحيوية.
خامسًا: الحرب العالمية الثانية واستمرار النزيف:
ما إن لملمت فرنسا جراحها حتى داهمتها الكارثة الثانية؛ اجتياح هتلر عام 1940 كشف هشاشة الدولة التي أنهكها الماضي، ورغم أن الاحتلال الألماني لم يدم طويلًا، فإن حصيلة القتلى الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية بلغت نحو 600 ألف بين عسكريين ومدنيين.
ولم ينته الأمر بانتهاء الحرب، ففي مرحلة ما بعد الاستعمار، وجدت فرنسا نفسها غارقة في حروب الهند الصينية (1946–1954) ثم الجزائر (1954–1962)، حيث فقدت ما يزيد على مائة ألف من جنودها. كانت هذه بمثابة الفصول الأخيرة في كتاب طويل من النزيف.
سادسًا: من القوة السكانية إلى التراجع الديموغرافي:
من يقرأ تاريخ فرنسا منذ 1789 يلاحظ أن ضريبة التوحش لم تكن مجرد دماء في الحروب، بل أثّرت على توازنها الديموغرافي؛ ففي عام 1800، كان عدد سكان فرنسا نحو 27 مليون نسمة، أي ما يعادل تقريبًا مجموع سكان العالم العربي كله آنذاك (23 مليونًا). لكن بعد قرنين، انقلب المشهد:
– فرنسا اليوم لا يزيد سكانها عن 67 مليون نسمة.
– بينما العالم العربي يقترب من نصف مليار نسمة.
لم يكن هذا الفارق وليد الخصوبة وحدها، بل نتيجة مباشرة للنزيف الذي عرفته فرنسا؛ فالحروب المتواصلة، من الثورة إلى الجزائر، حرمت الأمة من تراكم سكاني طبيعي. وبذلك دفعت فرنسا ثمنًا باهظًا لانغماسها في التوسع الإمبراطوري والصراع الأوروبي.
الخاتمة:
التاريخ يعلمنا أن المجد المبني على الدماء لا يدوم؛ فرنسا دفعت ضريبة التوحش منذ ثورتها حتى حروبها الاستعمارية، أحرزت انتصارات باهرة، لكنها فقدت ملايين من أبنائها، وتراجعت ديموغرافيًّا أمام خصومها وحلفائها على السواء.
اليوم: حين ننظر إلى خريطة السكان نجد المفارقة: فرنسا التي كانت توازي العالم العربي كله في القرن الثامن عشر، أصبحت اليوم مجرد جزء صغير أمامه. هذه النتيجة ليست مصادفة، بل هي ثمرة مباشرة لسياسات التوسع العسكري، والإيمان بأن القوة تصنع التاريخ حتى لو كان ثمنها الإنسان.
إن ضريبة التوحش درس يتجاوز فرنسا إلى كل أمة: حين تُقيم قوتها على الدماء، فهي تكتب بيدها حكمًا بطيئًا على نفسها بالتراجع والانكماش أو حتى الفشل والانهيار.
وإذا كانت فرنسا، بكل سعتها الجغرافية وعمقها الديموغرافي، قد دفعت ثمنًا باهظًا لمغامراتها التوسعية حتى انكمشت وتراجعت، فإن المشروع الصهيوني – الأصغر حجمًا والأضيق عمقًا – سيكون أشد عرضة لدفع ضريبة التوحش.
فرنسا كان لديها عشرات الملايين من السكان، ومع ذلك نزفت أجيالًا كاملة في حروبها حتى فقدت وزنها، فكيف بكيان لا يتجاوز سكانه اليوم بضعة ملايين محاطين بمئات الملايين من العرب والمسلمين؟!
إن التوحش الذي تمارسه الصهيونية في فلسطين ليس علامة قوة، بل بداية نزيفٍ طويل لن يتحمله هذا الكيان الاستيطاني الصغير. وكما انتهى المجد الإمبراطوري الفرنسي إلى تراجع وانكماش، فإن التوحش الصهيوني -مهما طال- سيكتب نهايته بنفس القاعدة التاريخية: الأمم التي تؤسس وجودها على الدماء سرعان ما تنكمش أو تنهار في مواجهة ضريبة التوحش.
د. خالد نصر
بوسطن أغسطس 2025