النص يحتاج لإمعان النظر من جهة النظم ومن جهة الدلالة.
فقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102] فيه أمور يبدو في ظاهرها التعارض، ويحسن جمع المعنى في تصور يقرب القصة:
أولا: نلاحظ الكلمات الآتية:
– (بلغ معه السعي) وهي كناية حقيقتها وصل لسن يعتمد فيها على نفسه، وذلك بدلالة (معه) فالظرف هنا متعلق بمحذوف، والتقدير: فلما بلغ الحد الذي يسعى فيه بنفسه حاضرًا مع أبيه.
ولا يصح تعلق (معه) بالفعل (بلغ) لأن المعنى هنا أن كليهما بلغ السعي، وسيدنا إبراهيم كان شيخًا كبيرًا.
وكذلك لا يصح تعلقه بالسعي، لتقدم المتعلق على المصدر، وصلة المصدر لا تتقدم عليه، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: 121]. فلا بد من التقدير؛ أي لا يجدون محيصا أغنى عنها، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36].
وهذا يدل ضمنا على أن سيدنا إبراهيم قد رأى هذا الأمر على فترات زمنية، وانتظر حتى بلغ ولده سنًّا تسمح بتلقي هذا الخبر العظيم، وإلا لما كان لهذا الجزء من الآية فائدة إضافية إذا كانت الرؤيا عابرة. والغالب أن سيدنا إبراهيم كان يغالب بين واجبين، واجب الأبوة وواجب النبوة، لا سيما مع عدم الوحي المباشر.
– (أرى) وهي تدل على الحالية، بخلاف قول يوسف وهو في ذات الحال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]. فقد عبر بالزمن الماضي مرتين، فالزمن الماضي يفيد الثبات والاستقرار في الفعل، والزمن الحاضر يدل على القرب والاستمرارية والتجدد والتكرار.
ومع ذلك فقد اجتمع في السياق ما يدل على مضي الحدث ضمنًا، وذلك في قوله: (في المنام) وسيدنا إبراهيم حين أخبر ابنه بذلك كان في حال اليقظة، وصار النوم خلفه، فكأنه قال: رأيت حين كنت نائمًا. وعلى ذلك فقد اجتمع معنى المضي ووظيفة المضارعة، وهو أقوى في الإنشاء والإخبار.
– (في المنام) شبه الجملة هنا متعلق بالفعل (أرى)، وعند هذا القدر يكون نصًّا في الحلمية، وليس في الوحي، والجار والمجرور هنا يفيد تخصيص الحال، ليخرج غيره من الأحوال، كما تقول: أجد في الكتاب، ليخرج غيره من وسائل النقل.
ومع ذلك فإن الرؤيا هنا أكبر من رؤيا الحلم بدلالة قوله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102]. والحلم الأبوي لا يقع به أمر، لا سيما في أمر عظيم كالإحياء والإماتة.
فهذا يدل بلفظه على أن سيدنا إبراهيم قد تلقى أمرًا مباشرًا.
وبيان ذلك أن ظاهر النص يحتمل أمرين:
١- أن سيدنا إبراهيم قد رأى في المنام تحديدا وهو يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، فأخبر ولده على مقتضى الرؤيا.
٢- أنه رأى في المنام ولكنه ليس مستيقنا مما رآه هل هو حق أم من الشيطان.
وكلا الأمرين مردود، وذلك لأنه لو كان مستيقنًا فقط بالرؤيا لما احتاج لسؤال ابنه (فانظر ماذا ترى) ولقال له نصًّا: هذا أمر إلهي قطعيّ ولا حيلة فيه.
ولو لم يكن مستيقنًا فكيف يحمل ابنه على فعل كهذا ببعض الوساوس، وهو أمر عظيم على نفسه وعلى ابنه وعلى الأم وعلى المجتمع الدعوي حوله.
وعلى هذا فالذي يظهر أن الأمر بدأ بالرؤيا وانتهى بالوحي المباشر، وعبر سيدنا إبراهيم ببعض الأمر تخفيفًا على ابنه وعلى أمه، مع أن الجميع يعلم أنه أمر بالرؤيا والوحي معًا.
ولا يرد على ما قدمنا قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: 104-105] لأن فعله وافق ما رأى، بدلالة الفعل المضارع (أذبحك) فقد رأى فعل الذبح دون نتيجته، وفعل الذبح يبدأ بالسعي والاستعداد، وينتهي بالمباشرة، وقد وقع من سيدنا إبراهيم ما يوافق الصورة، والذي تخلف هو المعهود البشري التجريبي، الذي يقضي بخاصية القطع للسكين، كما تخلف من قبل مع النار والتي من خواصها الحرق.
وعلى ذلك فلا اشتباه هنا، فالله أمره وأراه الجزء الظاهر من الفعل دون نتيجته، وفي علمه تقدير له ولمن بعده .
وسيدنا إبراهيم أخبر ولده بما تيقن عنده وفيه أيضا فعل الذبح دون نتيجته.
وسيدنا إسماعيل استقبل الأمر كما هو دون استفصال طاعةً لله.
المفتي: د خالد نصر
فقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102] فيه أمور يبدو في ظاهرها التعارض، ويحسن جمع المعنى في تصور يقرب القصة:
أولا: نلاحظ الكلمات الآتية:
– (بلغ معه السعي) وهي كناية حقيقتها وصل لسن يعتمد فيها على نفسه، وذلك بدلالة (معه) فالظرف هنا متعلق بمحذوف، والتقدير: فلما بلغ الحد الذي يسعى فيه بنفسه حاضرًا مع أبيه.
ولا يصح تعلق (معه) بالفعل (بلغ) لأن المعنى هنا أن كليهما بلغ السعي، وسيدنا إبراهيم كان شيخًا كبيرًا.
وكذلك لا يصح تعلقه بالسعي، لتقدم المتعلق على المصدر، وصلة المصدر لا تتقدم عليه، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: 121]. فلا بد من التقدير؛ أي لا يجدون محيصا أغنى عنها، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36].
وهذا يدل ضمنا على أن سيدنا إبراهيم قد رأى هذا الأمر على فترات زمنية، وانتظر حتى بلغ ولده سنًّا تسمح بتلقي هذا الخبر العظيم، وإلا لما كان لهذا الجزء من الآية فائدة إضافية إذا كانت الرؤيا عابرة. والغالب أن سيدنا إبراهيم كان يغالب بين واجبين، واجب الأبوة وواجب النبوة، لا سيما مع عدم الوحي المباشر.
– (أرى) وهي تدل على الحالية، بخلاف قول يوسف وهو في ذات الحال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]. فقد عبر بالزمن الماضي مرتين، فالزمن الماضي يفيد الثبات والاستقرار في الفعل، والزمن الحاضر يدل على القرب والاستمرارية والتجدد والتكرار.
ومع ذلك فقد اجتمع في السياق ما يدل على مضي الحدث ضمنًا، وذلك في قوله: (في المنام) وسيدنا إبراهيم حين أخبر ابنه بذلك كان في حال اليقظة، وصار النوم خلفه، فكأنه قال: رأيت حين كنت نائمًا. وعلى ذلك فقد اجتمع معنى المضي ووظيفة المضارعة، وهو أقوى في الإنشاء والإخبار.
– (في المنام) شبه الجملة هنا متعلق بالفعل (أرى)، وعند هذا القدر يكون نصًّا في الحلمية، وليس في الوحي، والجار والمجرور هنا يفيد تخصيص الحال، ليخرج غيره من الأحوال، كما تقول: أجد في الكتاب، ليخرج غيره من وسائل النقل.
ومع ذلك فإن الرؤيا هنا أكبر من رؤيا الحلم بدلالة قوله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102]. والحلم الأبوي لا يقع به أمر، لا سيما في أمر عظيم كالإحياء والإماتة.
فهذا يدل بلفظه على أن سيدنا إبراهيم قد تلقى أمرًا مباشرًا.
وبيان ذلك أن ظاهر النص يحتمل أمرين:
١- أن سيدنا إبراهيم قد رأى في المنام تحديدا وهو يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، فأخبر ولده على مقتضى الرؤيا.
٢- أنه رأى في المنام ولكنه ليس مستيقنا مما رآه هل هو حق أم من الشيطان.
وكلا الأمرين مردود، وذلك لأنه لو كان مستيقنًا فقط بالرؤيا لما احتاج لسؤال ابنه (فانظر ماذا ترى) ولقال له نصًّا: هذا أمر إلهي قطعيّ ولا حيلة فيه.
ولو لم يكن مستيقنًا فكيف يحمل ابنه على فعل كهذا ببعض الوساوس، وهو أمر عظيم على نفسه وعلى ابنه وعلى الأم وعلى المجتمع الدعوي حوله.
وعلى هذا فالذي يظهر أن الأمر بدأ بالرؤيا وانتهى بالوحي المباشر، وعبر سيدنا إبراهيم ببعض الأمر تخفيفًا على ابنه وعلى أمه، مع أن الجميع يعلم أنه أمر بالرؤيا والوحي معًا.
ولا يرد على ما قدمنا قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: 104-105] لأن فعله وافق ما رأى، بدلالة الفعل المضارع (أذبحك) فقد رأى فعل الذبح دون نتيجته، وفعل الذبح يبدأ بالسعي والاستعداد، وينتهي بالمباشرة، وقد وقع من سيدنا إبراهيم ما يوافق الصورة، والذي تخلف هو المعهود البشري التجريبي، الذي يقضي بخاصية القطع للسكين، كما تخلف من قبل مع النار والتي من خواصها الحرق.
وعلى ذلك فلا اشتباه هنا، فالله أمره وأراه الجزء الظاهر من الفعل دون نتيجته، وفي علمه تقدير له ولمن بعده .
وسيدنا إبراهيم أخبر ولده بما تيقن عنده وفيه أيضا فعل الذبح دون نتيجته.
وسيدنا إسماعيل استقبل الأمر كما هو دون استفصال طاعةً لله.
المفتي: د خالد نصر